الدكتور المهندس أحمد الحسبان - تنحنح مقدماً اليّ ورقة اجازة ليومين، فسألته لماذا؟ وليس ذلك من استحقاقك الشهري يا هذا؛ فقال انا الذي حملتك بسيارتي من الجسر الى هنا صباحاً وليومين متتاليين، ولم اكن اعرفه لأن عددهم كبير وانا حديث العهد بهم لا احفظ اسماءهم ولا اشكالهم بعد، فقلت ألم تقبض أجرك يا (فلان) بعد ان عرفت اسمه، فقال: بلى، ولكن عامل الوقت مهم، وانا اول الواصلين اليك، وانت المسؤول هنا ويجب ان تكون اول من يحضر الطابور الصباحي، فابتسمت على مضص ووقعت الاجازة - لا مرغماً بل ضامراً بنفسي حاجة كيعقوب، وكنت وقتها في بدايات الثلاثينات من عمري عام ٢٠٠١، ولكن بدون سيارة تقلني انا واطفالي، حيث كنا وقتئذٍ نعتمد - وكعموم الشعب - على المواصلات العامة، وأحيانا تكسي مكتب (السليم) عبر الهاتف، او البكمات - بلا شكوى ولا تذمر.
عدتُ للمنزل يومها مهموماً ضجراً، اضربُ اخماساً بأسداس، كيف سأتخلص من هذا الذي يصادفني صباح كل يوم دوام بنفس التوقيت عامداً متعمداً، ليحمّلني جميلة الركوب (مقابل الاجر) من الجسر الى موقع الدوام مسافة ١٧ كم في عمق الصحراء الشرقية - حيث لا مواصلات عامة هناك، ففكرت وقدرت، ثم جمعت كل ما املك من مال في البيت وكان ١٠٠ دينار بالكاد يكفي مصروفاً لآخر الشهر، وأضفته لجمعية تعاونية كانت قد نسقت مشاريكها زوجتي ورفيقاتها بالمدرسة ب ٧٥٠ دينار، واستطعت خلال ايام عطلة نهاية الاسبوع جمع ١١٠٠ دينار، بالكاد استطعت ان اشتري بها سيارة نوع فوكس فايجن المانية الصنع موديل ١٩٧٠ أكبر مني سنا، كانت حمراء اللون جميلة بنظري، صوت ماتورها (نحلة) رنان، تم شراؤها من السيد جواد، صاحب اشهر محل لتصليح الفوكسات في مدينة الجند - الزرقاء، وتمت معايرتها المشهورة بمفكه الطويل المعروف، يجس فيه نبض الماتور وكأنه سماعة طبيب.
كنت فرحاً جدا وانا امتطي صهوتها، كانت اول سيارة اقتنيها في حياتي، ولم اكن اعي انها سريعة، حتى اسماها زميلي ورفيقي المهندس موفق السهم الاحمر (the red arrow)، فتزداد سرعتها كلما صدحت فيروز صباحا من راديو قديم يضخ صوته عبر سماعتين اماميتين على التابلو، ومحمد عبده مساءا عند العودة، واشرطة كاسيت مختلفة الالحان، استبدلتها لاحقا - بعد التوبة والعمرة - بأشرطة قرآن لعبد الباسط صباحا، و الحذيفي مساءا، أو نشرة اخبار الثالثة عصراً من عمان. وكانت تصدر ضجيجا مميزا يعرف منه أهل الحي اني قد عدت من عملي.
شكرا لذلك الفني (فلان) الذي حاول ان يسقيني كأس الحياة بذلة، تذكرته فوراً - والنحنحة - بعد اول دخول لها لغاية باب مبنى مكتبي، فدخلت المكتب مزهوا، وطلبته مع أول رشفة قهوة، وتفاجأ انه وجدني بالمكتب ولم يجدني على ذاك الجسر ذياك الصباح، وتفاجأ أكثر عندما طلبته، فقلت له بنبرة المنتصر المنتشي فرحا بعد قهر، لقد اشتريت المحروسة التي تراها أمامك من الشباك، ولم اعد بحاجة اليك بعد اليوم، لكن لي بذمتك للدوام يوم اجازة سأخصمه من استحقاقك هذا الشهر، لم اخصمه سابقاً لا لحاجتي اليك، لاني ضمرت شراء سيارة مهما كان نوعها وعلى حساب قوت اسرتي منذ سمعت صوت تنحنحك، بل حتى لا يقال قابل أحمد الاحسان بالاساءة، ولا يذهب المعروف بين الناس، ولكن حق الدوام اولى مني ومنك، والعدل ان ارجعه لأصحابه، فابتسم راضياً وانصرف قائلا: امرك سيدي، لقد تعلمت درساً لن اكرر خطأه، ولكني اكاد اسمعه يقول لنفسه، هذه فوكس فايجن (مهكعة)، كيف لو كانت أحدث.
بعد مرور سنة؛ تم بيع الفوكس فايجن - السهم الاحمر، وبالمناسبة هي سيارة جبارة، اسمها يعني (عربة العائلة)؛ ،اب وام وطفلين اثنين بلا أبواب خلفية، مخصصة لالمانيا حيث البرد والثلوج، لكن الماتور احترق من الحميان اثناء انطلاقها على اوتوستراد المفرق الزرقاء، ولكونه يبرد بالزيت وليس بالماء لم يحتمل حرارة الصيف مع ان غطاءه كان مرفوعا اثناء المسير - كعادة كل سواقين الفوكس آنذاك وبعض باصات الخط القديمة، وبما ان موقعه بالطبون الخلفي، لم تصلني رائحة الحرق من شدة رياح الصحراء الا من تنبيهات السائقين خلفي عندما يتجاوزوني ملوحين بأيديهم الي ان الماتور يحترق، لم يستطع السيد جواد ان يعيدها هيئتها الاولى ورشاقتها البكر، فبيعت بنصف الثمن سيما ان قطع الغيار لها تنقرض سنة بعد سنة، وتم شراء كاديت خضراء داكناً لونها، موديل ١٩٨٧، استمرت بخدمتي مشكورة اكثر من خمس سنوات - بلا احتراق ولا جميلة من أحد.
خلاصة الدرس؛ لم يكن السهم الاحمر تلك الفوكس، بل كان صوت النحنحة، اخترق مكامن قلبي وعقلي قبل ان تخترق هي طرق الصحراء، عندما تكون ظروف الحياة صعبة، يُكتفى بالقليل وبالقديم، وعندما يُسقى ماءُ الحياة بذلة، يكون الحنظل المر عزةً وشموخاً، فحنظلُ الفقر والعوز خيرٌ من عز الرشوة والاستغلال، وعندما يُراد للنفس عزة، ترخص لأجل ذلك كل أموال الدنيا - بل وتظهر الحلول البديلة الحلال.
لَبَيتٌ تَخفِقُ الأرياحُ فيه
أَحَبُّ إليَّ مِن قَصرٍ مُنيفِ
وأكلُ كُسَيرَةٍ مِن كَسرِ بيتي
أحبُّ إلي مِن أكل الرغيفِ
خُشونَةُ عِيشَتي في البدو اشهى
إلى نفسي مِن العيشِ الظريف - لقائلته.
من مقالات - الصمت في عالم الضجيج.
الدكتور المهندس أحمد الحسبان