مهدي مبارك عبد الله - مدينة جنين ومخيمها كانتا بداية الانتصار الحقيقي على كيان الاحتلال وستبقيان القدوة والنموذج لباقي مدن الضفة الغربية كأيقونة لشعاع المقاومة وروح الثورة حيث أعاد مقاتلو كتيبة جنين البوصلة لمقارعة الاحتلال الذي يصعد من جرائمه الإرهابية ضد المواطنين العزل ظنا منه بان ذلك يرمم صورته المتهاوية ومنظومته المنهارة
حسبما ظهر واضحا بعد عجزه وفشله في اعتقال والد الاستشهادي رعد حازم بسبب تصدي مقاتلي كتيبة جنين لعدوانه ليبقى المخيم عصياً على الانكسار وهو يعيش مع كل اقتحام لحظة انتصار حقيقي يعيد فيها للذاكرة الوطنية ملحمة جنين البطولية وذكرى رجيل القائد محمود طوالبة وجميل العموري وغيرهم من الشهداء الابطال
الإعلانُ الأول عن تشكل كتيبة جنين كان في شهر أيلول 2021 في أعقاب عملية نفق الحرية ونجاح الأسرى الستة ( محمود العارضة محمد العارضة مناضل نفيعات وزكريا الزبيدي ويعقوب قادري وأيهم كممجي ) في الهروب من سجن جلبوع وقد كان بيان الكتيبة العسكريّ الأول يعبر عن استعدادِها للانضمام لمعركة الأسرى الفارين باحتضانهم في المخيم والدفاع عنهم وفي تلك الفترة أنشئت الكتيبة قناةً لها على تطبيق تلغرام لترسِلَ من خلالها رسائلَها وخطاباتِها العسكرية الموجهة لعناصرها والمواطنين
على مدار الخمسة أيام الأولى من عملية ملاحقة الاحتلال للأسرى الفارين نفذت الكتيبة ما أطلقت عليه ( فعاليات الإرباك ) التي تمثلت بتنفيذ عمليات إطلاق النار على الحواجز المحيطة بمدينة جنين والخروج في مسيرات عسكرية داخل المخيم كان الهدف منها استعراضَ عتاد المقاومين وما يمتلكونه من سلاح والتأكيد على استعدادهم للدفاع عن الأسرى واحتضانهم بكل جهوزية عالية وروح استشهادية حاضرة
تشكلت كتيبة جنين في ظل ظروفٍ أمنية صعبة ومعقدة خلقتها سلطات الاحتلال بالتعاون مع السلطة الفلسطينية حيث شهدت تصاعداً عام بعد عامٍ من بعد نهاية الانتفاضة الثانية إلى درجة استحال فيها وجود اي تنظيم مقاوم في الضفة الغربية يمكنه ان يترك هذا الواقع التنظيمي المسلح
في البداية كانت الكتيبة تمثل حالة غير منظمة من المقاومة في مخيم جنين ثم تجمعت تحت مسمى ( كتيبة جنين ) بعد عملية نفق الحرية لكن انتقال الكتيبة من السرية إلى العلن لم يأت استجابةً لحدث عملية نفق الحرية فحسب أو استغلالاً للظهور أمام كاميرات الإعلام وإنما كان بمثابة تصعيد تراكمي في فعل المقاومة في الضفة وقد حفزته وسرعته معركة سيف القدس وما رافقها من هبة شعبية في أيار 2021
ارتبطت كتيبة جنين باسم ابن المخيم المقاوم جميل العموري 25 عام الاب الروحي للكتيبة الذي كان يردد دائما ( بوصلة سلاحنا موجهة للاحتلال فقط ) قبل ان تغالته قوات الاحتلال الإسرائيلي في العاشر من حزيران 2021 حيث كان شخصيةً اجتماعيةً وقيادية محبوبة في المخيم انتمى في بداياته لحركة الجهاد الإسلامي وكان أحد كوادرها العسكرية
كما كان من أبرز المطلوبين للاحتلال في المخيم لتنفيذه عدة عمليات إطلاق نارٍ استهدفت حاجزي الجلمة ودوتان في محيط جنين خلال معركة سيف القدس وقد لقبه شباب المخيم بعد استشهاده بـ ( مجدد الاشتباك ) لدوره في تحفيزهم على تنفيذ عمليات إطلاق النار ولم يغب يوماً عن المشاركة في المسيرات المساندة لمعركة سيف القدس وهو يقود مرحلة جديدة من المقاومة
ساهم العموري بشكلٍ فعالٍ في تشكيل خلايا عسكرية نشطة داخل المخيم وهي الخلايا التي كانت فيما بعد النواةً الاولى لتشكيل كتيبة جنين التي شق دربها العموري وغادر دون أن يراها تكبر وتتوسع ويتصاعد فعلها ولم تعد تذكر الكتيبة دون ذكر العموري ولا ترفع راياتها دون اسمه أو صورته
الاحتلال كان يخشى من ظهور العموري كقائد في ساحة المواجهة كونه تمكن من تشكيل حالة جديدة في مخيم جنين تخطت تقسيمات الفصائل حيث لم يلتحق به أبناء الجهاد الإسلامي فقط وإنما شبان من حركة فتح ومن الفصائل الأخرى من الذين تأثروا به وينسب لمقاتلي الكتيبة اليوم عدة عمليات إطلاق نار باتجاه الحواجز ودوريات الجيش خلال التصدي لاقتحام المخيم ومحيطه
الكتيبة في الجانب التنظيمي هي امتداد لسرايا القدس وتستمد فكرها السياسي ومبادئها من حركة الجهاد الإسلامي وقد استعارت اسمها من خطاب للأمين العام للجهاد زياد نخالة الذي لقب فيه الأسرى الستة بـ ( كتيبة جنين ) ومن غير الواضح حتى الآن عدد المقاتلين المنضوين في إطارها ويوجد لها امتداد خارج مخيم جنين وقد حاول بعض المقاومين استنساخ تجربة الكتيبة في مدينة رام الله والبلدة القديمة في نابلس كما يواصل قادتها التحفظ على أعداد المقاتلين والخلايا فيها وحجم عتادها وتسليحها
لا يوجد في الكتيبة تسلسل تنظيمي هرمي ولا اتصال مباشر مع القيادة ولكل مقاتل فيها أو خلية حرية التصرف كلما وجدت نفسها مستعدة لذلك كما يعتمد أفرادها على ما يمتلكون من أسلحة شخصيّة وهو ما يجعلهم أصحاب قرار مستقل ومما سهل توسع الكتيبة أو نسخ تجربتها التحاق عشرات المقاتلين تحت لوائها وتنظيم أنفسهم في خلايا فيما اكتفى البعض بالمحافظة على فرديته مع حمل لواء الكتيبة وتعريف نفسه كونه أحد عناصرها
الكيان الصهيوني يعي جيداً قبل غيره بان قوة ردعه تآكلت بشكل كبير أمام المقاومة الفلسطينية وأن العدوان المتكرر على مخيم جنين الذي خرج الاستشهادي راغب جرادات ليحطم الجدار الواقي في حينه لن يغير من الواقع شيء وهو يواجه اليوم مقاومة أشرس مما كانت عليه قبل عشرين عام والاستشهاديون الشباب الذين لم يولد جزء كبير منهم أثناء معركة مخيم جنين ( الشهيد أحمد السعدي كان عمره 3 أعوام فقط في ملحمة جنين ) حملوا ارث الإباء والاجداد في المقاومة والكفاح حتى الموت او دحر الاحتلال
أبناء الجيل الحالي في مدينة ومخيم جنين تربوا على تضحيات الشهداء ( محمود طوالبة وأبو جندل ورياض بدير والأسرى القادة ثابت مرداوي وعلي الصفوري ) حيث اختطوا نهجهم بالصبر والصمود والمقاومة والمحافظة على طهارة البندقية وهم يخرجون من تلك البقعة المباركة الى عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة في سبيل الجهاد والنضال على طريق تحرير القدس وفلسطين وفي كل مرة يوقعون الرعب في قلوب الجنود الصهاينة وقطعان المستوطنين لتصبح جنين عنوان ومصدر الرعب الأكبر لحياتهم اليومية
يبلغ عدد المطلوبين من مقاتلي الكتيبة نحو 40 شاب بعضهم مطارد منذ أيار 2021 من قبل الاحتلال ومخابرات السلطة معظمهم لا ينامون في منازلهم ولا يخرجون من المخيم الذي بات محل أمانهم الوحيد والذي أصبح اقتحامه من قبل الاحتلال يترتب عليه ثمن كبير وكلفة باهضه فلا يمر يوم دون عمليات إطلاق نار واشتباك وارتقاء شهداء وسقوط جرحى ومصابين في ظل وجود حاضنة شعبيّة واسعة تسند مسار الكتيبة وعملها المقاوم
رغم تعاظم قوات الاحتلال الغاشمة عدة وعتاد وبطش وسيطرة ما تزال المقاومة بإراداتها الصلبة وعقيدتها الراسخة وطريقتها المنظمة واساليبها المفاجئة وخبراتها القتالية المتراكمة تدافع عن جنين وأهلها وتتصدى للعدوان الصهيوني وتضرب منظومة الاحتلال العسكرية والأمنية والسياسية بكل قوة وثبات وقد اعتراف الاحتلال في أكثر من مرة ان بالاشتباكات العنيفة والشرسة مع ابطال كتيبة جنين التي تصاعدت عملياتها بعد اشتداد ملاحقة الاحتلال والأجهزة الأمنية الفلسطينية لمقاتليها وتكرار العدوان على المخيم وأهله
كتيبة جنين تشق اليوم طريقَها كامتداد طبيعي للمقاومة في مخيمها وكتجربة جمعية خلقت زخماً يرتفع بالحالة النضالية في الضفة الغربية ليبقى ابطالها الاشاوس شواهد حية عل القوة والمنعة وبصمات دامغة في المقاومة ومشاغلة العدو كرجال مؤمنيين عاهدوا الله والأمة والشعب على الاستمرار في أداء واجبهم الوطني بمقاومة الاحتلال والتصدي له كتعبير أصيل عن إرادة الشعب الفلسطيني الذي لا يقبل الاستسلام ولا الهزيمة ويتمسك بالمقاومة المسلحة كسبيل وحيد واوحد لتحرير الأرض وفرض حقه في الحياة والوجود
ختاما الواقع يؤكد ان الكتيبة وعناصرها يعيشون حالة استنزافٍ مادي ومعنوي يتمثل بالملاحقة والمطاردة وصولاً لعمليات الاغتيال وفي ظل هذه الظروف الصعبة تطرح الأسئلة المشروعة فيما يتعلق بإمكانيات تطوير هذه التجربة النضالية وتوسع أدواتها وفاعليتها الاستراتيجية في باقي مدن الضفة الغربية
وهل هي قادرة على النجاح بدون نبذ الخلافات وانهاء لانقسام وتوحيد مسارات البندقية والتغليب على الانتماءات الحزبية القاتلة بالانتماء إلى التراب الفلسطيني الشامل وهو ما سيزيد في حضور وتطور فعالية المقاومة في ساحات الاشتباك كافة رغم سعى الاحتلال لفصل الجبهات التي توحدت في غزة والضفة والقدس والـ 48 للدفاع عن الثوابت الوطنية والمقدسات الفلسطينية
mahdimu.barak@gmail.com