كثيراً ما يخلط الناس بين القناعة والطموح، ويظهر لهم انهما مفهومان متناقضان، لكنهما في الحقيقة مفهومان يكملان بعضهما البعض؛ القناعة هي الرضا بما لديك في الزمن الحاضر، والطموح هو السعي - بذات الوقت - لتحسينه في المستقبل. فالأولى تخص الرضا بما تم انجازه وهو بين يديك الآن - قبولاً بالقدر والرزق، والثاني هو الكفاح لتحسينه في الغد، ايماناً بحتمية العمل والسعي والأمل، وليس الكسل والتقاعس والتقهقهر للوراء.
الشخص الطموح يبات ليلته راضياً عن انجازاته التي خطط لها بالأمس ونفذ ما استطاع منها اليوم، قانعاً بها على انها مما قدره الله تعالى على انجاز ما أمكنه منها، ليصحو في اليوم التالي ساعياً لتحقيق المزيد من الانجازات والطموحات والاحلام - أو لأكمال ما لم يتمكن من انجازه منها، فإن نجح ببعضها فرح، وان فشل لم يسخط أو يحزن، بل تابع واستمر بالمسير للأمام.
المفهومان يرتبطان ببعضهما ارتباطاً تبادلياً، الاول يؤدي للثاني والعكس، القناعة قد تشبه الرجل الثابتة على الارض في المسير، والطموح كالرجل الاخرى في الهواء، وحالما تحط على الارض وتثبت عليها، تطير الاخرى في الهواء لتطمح متأملةً بخطوةٍ جديدة في الدرب، ويتم المسير للأمام بهذه الوتيرة المتناسقة المنتظمة، فإن تعثرت التي في الهواء منعتها التي على الارض من السقوط، فلا يكونان معاً في الهواء فيسقط السائر عليهما، ولا معاً على الارض فلا يتحرك وببقى مكانه.
فمثلاً؛ قد يطمحُ بحارٌ لصيد عشرة سمكات من البحر يومياً، فلا يتمكن من ذلك ويعود ببضع سمكات، فيقنع بهن ذلك اليوم، ويستمتع بما يأكل او يبيع منهن، ولكنه لا يسخط ولا يغضب للنقص الحاصل عما خطط له من صيدهن، فقد يكون الموج عاتياً او البحر شحيحاً او السمك غوراً بعيد المنال، ولكن لا بأس في ذلك، لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، ليعود في اليوم التالي بذات الطموح الشامخ، والامل الباعث للحياة، فلربما يصطاد العشرة او أكثر. فالطموح سبب الحياة وأملها، والقناعة سبب السعادة وطمأنينتها. وهكذا يحدث مع كل عامل كادح، أو طبيب نطاس، او مهندس بارع، او محامي شريف، أو معلم فاضل، او اي صاحب مهنة قنوع وطامح. يرضى بما أتاه الله ولا يحزن على ما فاته، لكنه يبحث عما فاته يوماً بعد يوم.
خلاصة القول؛ اذا توازنت القناعة مع الطموح لدى المرء كتوازن شعرة معاوية، لا تشتد فيقطعها الطموح المتشدد، ولا ترتخي فتهملها القناعة المتثاقلة للأرض - المتكاسلة، عندها يكون النجاح حليف ذاك الشخص المتزن، ولو بعد حين، وحيثما كان. الغرب ليسوا بأفضل منا طموحاً ولا هم رمزاً له دوننا كما قال ميخائيل نعيمة، ولا الشرق نيامٌ بسبب قناعتهم المتقهقهرة الجاذبة للخلف - بل لأسباب أخرى لا علاقة لها بِوَهم القناعة، وكلاهما يفتقران للإتزان، ويفتقران للوصول لنقطة التساوي التي عندها تلتقي وتكمن قمة السعادة مع قمة الأمل.
مقالات - الأوهام تقتل.
الدكتور المهندس أحمد الحسبان