ماهر أبو طير - يتفشى الغضب في البلد، وأدلة هذا الغضب متنوعة، فهذا مجتمع غاضب يكبت طاقة الغضب، لكنها تتسرب بوسائل مختلفة، نلمسها يوميا، وتقود احيانا الى ما لا يحمد عقباه بين الناس.
يكفي ان تخطئ وان تنظر، بالصدفة، وانت في سيارتك الى يسار سيارتك، وفيها قائدها، ليرد عليك بنظرة غاضبة، وقد يفعل ما هو اكثر اذا كانت زوجته برفقته، ظنا منه انك تتأمل وجهها الصبوح، لسبب أو آخر، فيما كل القصة، مجرد التفاتة عادية بريئة لا تعني شيئا لك.
حدة الغضب تتبدى ايضا في انخفاض مستوى التسامح والحلم، وكلما تحدثت مع شخص قال لك انه محسود، او مسحور، فالكل يشك في الكل، والكل يبحث عن طرف ما لاتهامه بتعثره.
حتى طبيعة الجرائم اصبحت تعبر عن حالة مختلفة، فالأم كما قرأنا تقتل ابنها وابنتها، وتبرر ذلك بكونها تريد ان تريحهما من الحياة، ورجل في مكان ما آخر يطعن ستة أطباء وموظفين في مستشفى حكومي، والكلام انه مريض نفسي، وكل الجرائم التي نسمع عنها هذه الايام، تتسم بكونها غريبة، من حيث شكلها او دوافعها، وهذا امر تدركه الجهات المختصة، بشكل واضح.
ذات مرة نصحت شخصا، بألا يرد على من يسيء التصرف في قيادة السيارة في الشارع، لان من امامك اليوم، ليس كسابق العهد والاوان، فقد يكون مدمنا او متعاطيا او مفصولا من عمله، او محملا بالغضب ويأتي تنفيس كل غضبه في وجهك، وقد يرتكب جريمة، او قد يكون مصابا بمرض نفسي، ومن درجات مختلفة، او بلا عمل، او يعاني من التزامات حياته المالية المتراكمة.
معيار الغضب يتبدى في قضايا كثيرة، وربما يزيد من حدة الغضب تردي الاوضاع الاقتصادية عند الغالبية العظمى، وغياب العدالة، وتجبر اصحاب العمل بموظفيهم، وغياب الانسجام النفسي والعاطفي في البيوت، وليس ادل على ذلك من حالات الطلاق التي تقع لأسباب تافهة، فلا يحتمل الشريك شريكه، ويجد في الطلاق حلا سريعا، برغم كلفته الاجتماعية والاقتصادية.
تراجع التربية بالمفهوم الصحيح، وتغييب الدين، والروحانية عن الحياة، حولنا الى كائنات قاسية، لايعطف فيها احد على احد، الا ما ندر، وكأن الكل وسط حريق، يصيحون مما هو فيه.
هناك تغيرات على الشخصية الاجتماعية، والغضب هنا، مجرد حالة تؤشر على ما هو اهم، اي التغيرات الاجتماعية الجارفة التي حلت بنا، وليس غريبا ان تجد اليوم، كثرة تميل الى العزلة، واختصار الاختلاط بالآخرين، بسبب المشاكل الناجمة عن ذلك، واللافت للانتباه ان لا احد يبذل جهدا في اعادة قراءة المستجدات على الهوية الاجتماعية، لوضع الحلول، لمنع الانجراف اكثر، نحو مجتمع جديد، غريب عن نفسه، يعاني من مشاكل وازمات كثيرة ومتنوعة وصعبة ايضا.
من ناحية سياسية، فإن هناك فرقا بين الهوية الاجتماعية التي تصون وحدة المجتمع في الظروف العادية، والازمات، وبين ان تكون الهوية متشظية، منقسمة على انفسها، بعد ان فقدت سماتها الاساسية، واكتسبت سمات بديلة، تجعل المرء احيانا انانيا، غير منتم، يفتقد الى كل حاضنات الرعاية العائلية، ويفعل اي شيء من اجل مصلحته، ولا يأبه بكل مفاهيم العيب، او العناوين التي تبناها الاهالي، اشتقاقا من الدين، او البنية الاجتماعية، بكل خبراتها المتراكمة عبر السنين.
لم نصل الى هذه الحالة، دون سبب وفي مرات تتأكد ان هذا مجرد مخطط يسعى لغسل الهوية الاجتماعية الاصلية تحت وطأة عوامل مختلفة، واعادة انتاج الهوية بشكل جديد، هوية تعاني من كل الاشكالات والازمات، وغير قادرة اصلا على تحمل الضغط عليها، على المستوى الفردي والجماعي، وكأننا نخلي بلادنا للفراغ، ونتحول من شعب الى مجرد مجاميع بشرية تعاني كثيرا.
الغضب ليس مجرد حالة عصبية، فهو دليل على ما هو اعمق، ويبقى السؤال المفرود هنا، عن السبب الذي يمنع من اعادة النظر في كل هذا الواقع، بدلا من ترك البلاد لمصيرها الغامض.
اخطر ما تعرضت له هذه البلاد، هو اعادة هندستها ونحن نتفرج.