شجعت الدولة على ولادة وإستمرار الشق الخدماتي من المجتمع المدني، وذلك على حساب المكون الحقوقي، وخاصة مع تقليص دور الدولة في الخدمات الاجتماعية في إطار برامج إعادة الهيكلة الاقتصادية. وظهر للوجود عدد كبير من جمعيات المجتمع المدني التي تضع الخدمات الإجتماعية ضمن أولوياتها، خاصة في عقد التسعينيات . وتجلى إهتمام الدولة من خلال التمويل الذي منحته للجمعيات "الخدماتية" بنسبة 80% في حين لم يتجاوز 1.9% بالنسبة للجمعيات الحقوقية وتعاملت الدولة بإزدواجية واضحة حيث تساهلت مع تأسيس هذا النوع من مؤسسات المجتمع المدني، مقابل التشدد مع الجمعيات الحقوقية أو المنظمات التي يعتقد أنها قادرة على خلق حراك إجتماعي وسياسي. وزاد وقع هذه الاستراتيجية مع إنطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية والتي تمخضت عن خلق العديد من الجمعيات الجديدة العاملة في مجال التنمية .
وتوجهت أغلب موارد هذه الجمعيات إلى محاربة الفقر والإقصاء والهشاشة، وخاصة في الأحياء الشعبية كثيفة السكان ، مما أدى إلى نشأة جمعيات الحي التي استفادت من مساعدات كبيرة من الدولة لهذا النوع من الجمعيات الصغيرة والمحدودة الأثر على مستوى السياسة والسياسات. وتناغم هذا التوجه الحكومي مع سعي الملك عبدالله الثاني إلى تحقيق إنجازات اجتماعية. فبالإضافة إلى وراثته لعرش أبيه، ورث الملك عبدالله الثاني أيظا الملايين من الفقراء والمحتاجين ، ممن يعانون من هشاشة وضعهم الإجتماعي والإقتصادي ونظرًا للمجهود المتواصل في هذا الصدد، حقق الأردن قفزة نوعية في السياسات الإجتماعية جعلته ينجز نتائج إيجابية أفضل مما سبق في تاريخه. وربما ساهم هذا التحسن النسبي إضافة لقوة القصر وتحالفاته السياسية في جعل الحركات الإحتجاجية إبان "الربيع العربي" أقل حدة في الأردن مقارنة بتونس ومصر واليمن وسوريا والبحرين وليبيا .
واجهت الدولة حركات المجتمع المدني عمومًا، والحقوقية خصوصًا، عن طريق التضييق القانوني أحيانًا والتفكيك (أو الإمتصاص) في أحيان أخرى سواء أدى هذا لتبديد المطالب الحقوقية أو نجم عنه تنازلات أقل مما كانت حركات المجتمع المدني تطمح إليه. والمقصود بالتفكيك هو السعي لإمتصاص الأثر الذي يمكن أن تحدثه الحركات الحقوقية من أجل إحتواء وتبديد مشاعر الغضب والإحتجاج. وقد استخدمت الدولة في الأردن هذه الأساليب مرارًا ومن أهم الأمثلة تنازلها المحسوب في مسلسل التناوب "الديمقراطي" الذي صُور على أنه نقلة نوعية نحو الديمقراطية رغم إحتفاظ الملك بسلطات واسعة بحيث لم يتبق لرئيس الوزراء سوى العمل على سياسات إجتماعية وإقتصادية في حدود واضحة جلية .
الدكتور هيثم عبدالكريم احمد الربابعة
أستاذ اللسانيات الحديثة المقارنة والتخطيط اللغوي