مهدي مبارك عبد الله - بعد أقل من يومين من إنهاء إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي القتال الذي استمر لثلاثة أيام وأسفر عن استشهاد 44 بينهم 15 طفلا وجرح 350 فلسطينيا اندلعت مباشرة اشتباكات دامية بين قوات الاحتلال ورجال المقاومة الفلسطينية الذين نهضوا مجددا وسددوا ضرباتهم الموجعة لقوات الاحتلال ردا على عدوانه وجرائمه التي لا تتوقف في عدد من مدن الضفة الغربية تركزت في نابلس والخليل ورام الله
يوم الثلاثاء الماضي 9/ 8/2022 وعلى مدار قرابة ثلاث ساعات، شهدت مدينة نابلس وتحديدًا أطراف البلدة القديمة بحارة الشيخ مسلم حصارا لأحد المباني القديمة التي تحصن بداخلها المطاردان إبراهيم النابلسي أحد قادة كتائب الأقصى البارزين والبالغ من العمر 26 وسلام صبوح 25 عام بعد مواجهات عنيفة دارت مع قوات الاحتلال لم تشهد المدينة مثلها منذ سنوات فجر الجنود الصهاينة المبنى بصواريخ ماتادور المحمولة على الكتف ما أدى الى استشهادهما والطفل حسين طه 16 عام وإلحاق دمار كبير في المنازل والممتلكات المجاورة
على الرغم من رهبة الموت ولوعة الفراق وألم الفقد الا ان ما شاهدناه من والدة المصري شكل اسطورة حية لجبروت التماسك والثبات بالزغاريد والابتسامة في حضرة الشهيد في مشهد عظيم ومؤثر وموقف جلل يقطع نياط القلوب وترتعد له الفرائص أساسه الايمان والصبر وقوة الإرادة ومضاء العزيمة والشكيمة وحب الوطن حين وقفت ( هدى النابلسي ) أم الشهيد البطل إبراهيم النابلسي المؤمنة الصابرة فوق جثمانه الطاهر وهو مسجى في مستشفى رفيديا الحكومي في نابلس
تخاطب بصوت عال وقلب وثاب الحاضرين وهي توجه رسالتها لقادة الاحتلال المجرمين ( إذا كان إبراهيم قد استشهد فهناك آلاف من أبناء الشعب الفلسطيني على استعداد للتضحية والشهادة دفاع عن الأقصى والقدس وستبقى فلسطين ولادة تلد الأحرار ولن تتعب أبدا من كثرة تقديمها للشهداء الابطال الذين تربوا على الشجاعة والإقدام في ميادين النزال حيث تبرز قيمة ومكانة الرجال
في الواقع كم كان لافتا بل مبهرا موقف هذه المرأة الودودة الحرة وهي تنعى فلذت كبدها مطالبة النساء بعدم البكاء وإظهار الفرح وتقديم التهاني بنجاح ولدها وبامتياز في نيل شرف الشهادة التي كان يتمناها في كل يوم في ذات الوقت الذي غلبت فيه الدموع كثير من رفاقه الرجال وهم يشربون حسرة فراقه ويودعونه للمرة الأخيرة حقا لقد اثبتت الام الفلسطينية انها منارة الصمود والكبرياء وأنها اقوى من قوانين الطبيعة وهي تزف ابنها للشهادة ولا تبكيه وتنظر بعينيها نحو السماء وكأنها تراقب روحه الصاعدة الى العلياء وفي صدرها بركان غضب مكتوم يتفجر
اثناء تشييع جنازة ابراهيم ورفيقيه وسط حالة من الغضب والحزن الشديدين وفي تحد صارخ لعصابات اللصوص وسراق الاوطان ظهرت والدته برباطة جأش ليس له مثيل وهي ترافقه الى قبره وتحمل نعشه وتصدح بالتكبير والتهليل وتطلق الزغاريد وتسير في مقدمة المشيعين وبيدها ( بندقية الثائر الهمام ) تلوح بها عاليا بشموخ وعنفوان وكأنها تزفه الى عروسته
أي امرأة هذه ومن أي مادة خلقت وفى أي مدرسة تربت إنها ( فلسطين ) صانعة الثوار وقاهرة المعتدين لله درك أي صبر أعظم من صبرك وأي ثبات أعظم من ثباتك من هنا ليعلم جميع اهل الأرض ان الأم الفلسطينية وحدها ( تشكل أمة ) وهي تستقبل شهيدا وتدع اخر رغم ان الابن غال ويعادل الروح لكن الوطن أغلى من الروح فمن ليس لديه وطن ليس لديه كرامة ولا شرف ولا بيت
والدة الشهيد المصري تلك المراءة الفلسطينية الصلبة والمؤمنة والصابرة التي حملته في احشائها جنينا وعلى صدرها رضيعا وعلى كتفِيها شهيدا بعدما نذرته لله ورسوله والاقصى وفلسطين لم يكسرها موته وبقيت شامخة كالجبل وراسخة كالوطن وهي تتذكر ما قاله لها في اتصاله بها وهو تحت وابل النيران الإسرائيلية قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ( لا تزعلي علي بحبك يا أمي حافظوا على الوطن من بعدي بوصيكم يا شباب ما حدا يترك البارودة أنا محاصر وراح استشهد ادعو لي )
انفاذا لوصية الشهيد القيمة ووفاءا للعهد والأمانة ابتهلت والدته ورفعت أكف الضراعة الى الله تدعو له ( اللهم استودعتك فلذة كبدي استودعتك من كان عندي وأصبح عندك يا الله اجعل الجنة مدخله وأكرمه وارض عنه وأرضه ) بينما كانت تتحدث مبتسمة الى مئات المسلحين الملثمين وغير الملثمين من رفاقه تشحن هممهم وتشد عزائمهم وتقوي معنوياتهم وتحثهم على مواصلة دربه والمحافظة على البندقية والالتفاف حول المقاومة والانتقام لاغتياله ورفيقيه ولم تنسى مع جراحها والمها توجيه التحية للأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصرالله
المرأة الفلسطينية ضربت ولا زالت تضرب أروع صور التضحيات والفداء وهي تفدم أغلي ما تملك وتتقدم مواقع البذل والعطاء صامدة وصابرة ومكافحة كيف لا وهي أم الشهيد وبنت الشهيد وزوجة الشهيد وأخت الشهيد وقبل كل ذلك المدرسة الوطنية الأولى التي يعود لها الفضل في تخريج المجاهدين الشرفاء الذين يسطرون في كل يوم اصلب ملاحم الصمود والتضحية ويقدمون في مختلف ميادين الشرف والعزة دروسا عظيمة في ارادة التحدي والمقاومة فمن ( أين أنتن يا نساء فلسطين الخنساءات ) بنات وأخوات الرجال الابطال ومدارس العزة والكرامة وحاضنات الصبر والاحتمال ومرضعات حليب العنفوان والشهامة لجيل النصر والتحرير بأذن الله
لا يفوتنا في هذا المقام ان نذكر بالشهيدات والاستشهاديات الباسلات اللواتي سطرن بالرصاص والدم أكمل البطولات حين امتشقن السلاح لمجابهة العدو دون خوف أو وجل إنهن نجمات فلسطين وأقمارها هنادي جرادات وهبة دراغمة وميساء أبو فنونة وميرفت مسعود وآيات الأخرس وريم الرياشي وسناء قديح وفاطمة النجار وغيرهن مما لا يتسع المقال لذكرهن
لقد خاب ظن قادة كيان الاحتلال الذين راهنوا منذ عام 1948 على كسر إرادة الأجيال الفلسطينية الجديدة وعلى أن عامل الزمن سينسيها وطنها ليعودوا اليوم مرغمين امام شراسة المواجهات والتحديات ليعترفوا بأن هذا الجيل من الشباب والشابات الفلسطينيين ( الجيل الرابع ) الذين يقومون بمعظم العمليات الفدائية يتمتعون بإرادة لا تلين وإنهم تعلموا الكثير من الأخطاء التي ارتكبتها قياداتهم السابقة والحالية بعدما فقدوا الأمل في أوسلو وأوهام السلام وأثبتوا أنهم جيل لا ينهزم ويزداد تمسكا بأرضه وإيمانا بأن المقاومة المسلحة هي اللغة الوحيدة التي يفهمها العدو الصهيوني وهي الطريق الوحيد لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر
شباب فلسطين يأبوا إلا أن يكونوا حصنا منيعا لوطنهم وأهلهم في مواجهة غطرسة الاحتلال الغاشم وهم يقدمون أنفسهم قرابين شهادة على مذبح المقاومة لتتحول تضحياتهم نارا على الأعداء تطالهم أينما وجدوا ولتزهر دماؤهم الزكية عزة وشموخ وبطولة في كل ربوع الوطن كشهداء ابرار صناع مجد ونصر ومن خلفهم أمهات تعجز الحروف عن وصف صبرهن وتضحياتهن ويجف مداد الفكر خشوعاً أمام عطائهن وارواحهن النضالية العالية
المقاومة الفلسطينية في موجتها الجديدة أكدت بوضوح ومصداقية على أن قضية القدس والمسجد الأقصى وحق العودة وفك الحصار عن غزة وتحرير الأسرى لا يمكن أن تحسم على طاولة المفاوضات السياسية العبثية التي أرهقت اللاهثين خلفها وأضاعت البوصلة أمام الكثير من نخب الأمة وأن هذا الاحتلال بكامله لن ينتهي الا عبر البندقية والرصاص والمواجهات العسكرية الشاملة مع العدو الصهيوني الغاصب في كل الساحات
على أمريكا واوروبا المجتمع الدولي والضمير العالمي ان يعوا انه لن يكون لا أمن ولا استقرار في المنطقة ما لم ينعم الشعب الفلسطيني بحقه الكامل في المسجد الأقصى والقدس وكنيسة القيامة وفي كل شبر من ارض وطنه طالما ان هنالك شباب يسارعون الى الشهادة وكأنهم يتقدمون إلى مهرجان عرس وأمهات يشاركن في زفاف أبنائهن حتى مثواهم الأخير وهن يزغردن فرحاً بأعظم هدية فازوا بها فان هذا الشعب العظيم لن ينهزم سوف ينتصر ويدحر الاحتلال ويسترجع كافة حقوقه التي لن تضيع بالتقادم ولا بمؤامرات التطبيع مهما طال الزمن أو قصر
أخيرا نقول ويل لبني صهيون شذاذ الافاق من أم أرضعت أشبالها الوطنية وأنبتتهم اشاوس حتى غـدو فدائية يقدمون ملاحم البطولية صمودا ويساله وتضحيات متوارثة من عزم الاجداد والاباء الى عزيمة الشباب وصحوة الأطفال الذين تربوا في حضن أمهات يتحدين الموت الزؤام بزغاريد الفرح وبسمات السرور هذه هي قصة ( هدى المصري ام إبراهيم ) وهذه هي كل القضية وحتى أكون منصفا فالمرأة الفلسطينية عموماً قدمت الشهداء فداء للوطن وام ابراهيم التي كتبنا عنها وأصرت على حمل نعش ابنها الشهيد وسلاحه ليست الأولى ولا هي الوحيدة فهنالك الالاف من ماجدات فلسطين العظيمات سرن على نفس طريق الفقد والألم والثبات والصبر بكل شموخ وأباء
كل التقدير والتحية لأم الشهيد وأم الأسير وأم الجريح وأم المقاوم وصادق الفخر والاعتزاز بك ايتها الأم الفلسطينية التي تحارب بقوة مع الرجال كل اشكال العنصرية والظلامية الصهيونية
mahdimu.barak@gmail.com