مهدي مبارك عبد الله - بداية لابد من تقديم وجيز حول ما يسمى بنظريات المؤامرة التي لا تعتبر جديدة في عالمنا لكن تداعيات هجوم 11 أيلول عام 2001 ( الاعتداء الدموي والأكثر بشاعة بالطائرات على برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك وعلى مبنى البنتاغون في واشنطن ) ساعد غذى انتشار هذا النوع من النظريات بعد سنوات من وقوعه والتي بات من الصعب التخلص منها تحديدا فيما يتعلق بهوية منفذي الهجمات التي نسبت مباشرة الى تنظيم القاعدة في حين أن الملايين من الناس عبر العالم يعتقدون جازمين بأن اجهزة الدولة الأمريكية هي المسؤولة عن تنفيذ تلك الاعتداءات
وفي ذات السياق لا زال الشك المريب يدور ويتسع حول حادثة اغتيال الرئيس الأمريكي الشهير جون كيندى عام 1963 سيما وان الكثير من التحقيقات والمؤلفات والمقابلات كشفت مؤخرا بان المخابرات الأمريكية هي التي خططت ودبرت قتله ولابد هنا ان نشير أيضا الى ان هنالك من يعتقد بان ظهور وانتشار فيروس كورونا كان ضمن مؤامرة دبرت في مختبرات أمريكية طورته كسلاح جرثومي لاستخدامه ضد اعدائها ثم نقلته الى الصين عبر وسائل عسكرية واستخباراتية سرية
كذلك لا زال يقال في السر والعلن بان اغتيال الملك السعودي الراحل فيصل بن عبد العزيز آل سعود عام 1975 من قِبَل ابن أخيه الأمير فيصل بن مساعد بن عبد العزيز كان بتوجيهات امنية أمريكية بسبب قطعه النفط عن أوروبا وامريكا خلال حرب أكتوبر عام 1973 كما يقال بان واشنطن شاركت في محاصرة وقتل الرئيس الليبي معمر القذافي وان قصف مقر السفارة الامريكية في بغداد عام 2020 من قبل تنظيمات عراقية مسلحة كان بتدبير مسبق مع مسؤولين أمريكيين بالسفارة ذاتها بعد نقل طواقم الموظفين الى القنصلية الامريكية في أربيل بإقليم كردستان
هنالك إشارات واضحة تدل على ان معظم عمليات القتل التي استهدفت المسلمين في أمريكا من قبل الافراد او المليشيات اليمينية المتطرفة والتي كان اخرها قتل اربعة رجال مسلمين قبل ايام في ولاية نيو مكسيكو كان يقف خلفها مسؤولون كبار متعصبون وعنصريون في مختلف الاجهزة الحكومية والأمنية الامريكية ناهيك عن المؤامرة التي تديرها واشنطن الان في تزييف الحقائق والبراهين والأدلة لتشويه سمعة الصين ومحاولة زعزعة امنها واستقرارها
مساء يوم الجمعة الماضي 12 / 8/ 2022 تعرض الكاتب البريطاني سلمان رشدي أثناء وجوده في معهد شوكاتو للآداب في مدينة نيويورك قبيل محاضرة كان سيلقيها إلى هجوم من قبل شاب يدعي هادي مطر 24 عام يقطن ولاية نيوجيرسي صعد على المسرح وبدأ في بطعن رشدي 15 مرة في رقبته وبطنه ما أدى الى اصابته بقطع في أعصاب إحدى ذراعيه وأضرار بالكبد واحتمالية فقده لإحدى عينيه
العملية بحسب مكتب التحقيقات الفيدرالي خططت ونفذت بشكل فردي ولم يثبت انتماء الشاب مطر إلى اي جهة محددة او جماعة سياسية او تنظيمية وهو من اتباع التشدد الشيعي والاعتداء يحمل طابع انتقام ديني ولا زالت السلطات الامريكية تبحث عن دوافع الاعتداء فيما إذا نفذ على أساس الفتوى الصادرة في عام 1989عن الامام آية الله روح الله الخميني بهدر دمه راديو طهران آنذاك بعد نشره رواية آيات شيطانية عام 1988 والتي اثارت استياء وغضب عارم في العالم الاسلامي كونها تستهزئ بالنص القرآني وتسئ للرسول محمد صل الله عليه وسلم واهل بيته والى مقدسات المسلمين كما أعلنت السلطات الإيرانية حينها تقديم مكافأة 3 ملايين دولار لأي شخص يستطيع قتله
سلمان رشدي84 عام طواه النسيان كل هذه السنوات وحرقت أوراقه وانتهت صلاحياته وكان من الممكن ان يموت على سريره ولا يدري به احد وها هو يعود من جديد ليتصدر المشهد الإعلامي بعد سبات طويل أعطاه قيمة واهتمام لم تمنحها له نصوصه الضعيفة والبذيئة ونحن اما مشهد كأننا نتابع فيلم او مسرحية ( سمي ما شئت )
امام كل ذلك علينا ألا ننسى أن أجهزة المخابرات الامريكية على اتصال دائم ببعض القوى والافراد تحركها لأغراضها الخاصة والسؤال المطروح من المستفيد من استهداف رشدي في هذا الوقت بالذات الذي تستعر فيه الخلافات بين واشنطن وطهران حول مباحثات اقرار الاتفاق النووي وكيف سيتم استغلال الحادثة لصناعة دعاية سلبية ضد إيران والإساءة للإسلام والمسلمين واحياء الصراعات الغربية التقليدية مع العالم الإسلامي ما يجعلنا نشك بانها ( لعبة مخابراتية مكشوفة )
بصرف النظر عن متلازمة المؤامرة وتوقيت العملية مع الادعاءات الامريكية بتورط طهران بالتخطيط لاغتيال مسؤولين أمريكيين انتقاماً لاغتيال الجنرال قاسم سليماني مثل بولتون وبومبيو فان ما حدث لرشدي كان جريمة مدبرة تفوح منها رائحة التخطيط الأمني المحكم واليكم بعض القرائن والقراءات التي نعتقد انها كانت تشي بذلك
اولا الشاب هادي مطر كان من الناشطين عبر صفحته على الفيسبوك ومن المناصرين لحزب الله وايران حيث كان في معظم تعليقاته وكتاباته يعظم الأمام الخميني الذي كان يطالب بتدمير أمريكا ويعتبرها الشيطان الاكبر كما كان يشيد بالحرس الثوري الايراني ويضع على صفحة حسابه الرئيسية صورة الامام الخميني والمرشد الأعلى علي خامنئي والجنرال الراحل قاسم سليماني الذي كان مصنف أمريكيا على انه ارهابي إضافة الى صور اشخاص يحملون أسلحة رشاشة ورغم كل ذلك لم يغلق الفيس بوك حسابه مباشرة عن ( طريق الذكاء الصناعي ) ولم يقتحم جهاز الـ اف بي أي الامريكي بيته ويلقي القبض عليه ويحقق معه فلماذا تركوه في هذه الفسحة المريحة خلافا لغيره
ثانيا المركز الذي أقيمت فيه الندوة مؤسسة حضارية متطورة محمية امنيا ببوابات الكترونية لكشف المفرقعات والأسلحة النارية والبيضاء وكل شيء معدني فكيف دخل مطر بالسكين ومن سهل له ذلك نتساءل باستفراد هل هي ( الشرطة الامريكية ) نفسها أو غيرها من الأجهزة الأمنية الاخرى
ثالثا اثناء وجود سلمان رشدي في لندن وضعته الحكومة البريطانية تحت حماية الشرطة حيث كانت تقوم قوات خاصة بحراسته على مدار الساعة كما أنه انتقل من مسكنه 30 مرة لضمان بقاء محل إقامته سريا ومجهول وبعد انتقاله الى أميركا عام 2000 لم تقدم له الحكومة الامريكية أي حماية امنية سواء في بيته او اثناء تنقلاته وتحركاته رغم التهديدات المتواصلة بقتله والتي هي على علم تام بها
رابعا هل يعقل في مكان وندوة كبيرة كهذه تقام في مدينة نيويورك احدى اكبر المدن الامريكية عدم وجود عناصر للشرطة والأمن للمراقبة وحماية الحضور والمشاركين من اي اعتداءات او مخاطر قد تنشأ لأي سبب كان وهل هو منطقي ان يتصدى رجال من الحضور للمهاجم والسيطرة علية وطرحه ارضا قبل وصول عناصر الشرطة الامريكية لاعتقاله ( أي بعد انجاز مهمته ) كثيرة هي الطروحات التي ايدت فكرة ان أجهزة المخابرات الامريكية قد تكون سهلت مهمة الشاب مطر بتوجيهاتها في الوصول الى الكاتب سلمان رشدي وطعنه بسهولة متناهية
خامسا على سبيل الافتراض لو تم الاعتداء على رشدي في أحد شوارع أمريكا العادية اثناء تجواله او تسوقه سواء كان بحراسة او بدونها ربما نتقبل ونفهم طبيع الحدث بان الشاب المهاجم ربما باغته بشكل مفاجئ وتمكن من طعنه الا ان تسويق الرواية الامريكية بهذه الصورة الباهتة كان من الحبكة والفبركة غير المقنعة بكل مصداقية كان يشوبة الضعف الشديد في الانتاج الإخراج والتمثيل
بعد جدل طويل وعدم كفاية المعلومات حول جنسية منفذ الهجوم أفصح علي تحفة رئيس بلدية بلدة يارون في الجنوب اللبناني التي تبعد 126 كم عن العاصمة بيروت أن والدي الشاب هادي مطر هما من يارون وأن هادي ولد وعاش في اميركا ولم يزر لبنان نهائيا
أي مدرك وعاقل يعلم انه ليس من صالح إيران في هذا التوقيت الجدلي والحساس استهداف الكاتب رشدي مع تواصل التفاوض على الاتفاق النووي بعدما هدرت دمه منذ سنوات بسبب كتاباته وبقي مختبئاً حتى ان الحكومة الإيرانيّة أعلنت في العام 1998 أنها لن تسعى الى تطبيق الفتوى وهو ما دعاه للظهور في أواخر التسعينات بشكل علني فكيف تأتي اليوم وتورط نفسها بشكل مباشر أمام العالم خلال نؤتمر عام داخل اميركا بعد كل هذه السنين الطويلة الامر الذي يضع مئات من علامات الاستفهام حول حقيقة ما حدث وتفاصيل المخطط المعد مسبقا
لهذا لم يكم من المستغرب ان تبدأ ماكينة الاعلام الامريكية وادواتها ( الاتحاد الوطني من أجل الديموقراطية في إيران ) ومقره واشنطن وهو منظمة معارضة محظورة في الجمهوريّة الإسلامية بالترويج قورا الى ان طهران ومن خلفها حزب الله اللبناني ضالعين مباشرة في الاعتداء على رشدي
جميع هذه الاتهامات جاءت وفقا لمبدأ الأحكام المسيسة والسابقة لأوانها بالاعتماد على ما وجدوا في حساب مطر التواصلي والذي أظهر فيه دعماً لإيران وحزب الله ووضع صورة للأمام الخميني والمرشد الإيراني وقاسم سليماني بالإضافة بعض تعليقات ومقالات الصحف الإيرانية المتشددة التي باركت العملية واشادة بمنفذها حيث جرى التعامل معها إعلاميا كمسلمات راسخة ودلائل قاطعة تدل على مجمل دوافعه السياسية وتشير لمن يقف خلفه ولا نستبعد ان يكون لإسرائيل دور خفي في هذه الجريمة لأثارة حنق العالم على طهران
دون أي انتظار للتحقيقات والتأكيد فيما اذا كانت صفحة الفيسبوك المعنية تعود فعلا له وجدلا لو سلمنا بوقوف إيران خلف الاعتداء هل من المنطق او المعقول أن تترك ما يدل عليها في حساب المنفذ لاحظوا هنا انه بسبب عدم التثبت من اي انتماءات للمهاجم جرى اتهامه بجريمة الشروع بالقتل والاعتداء دون أي تأكيد رسمي من قبل الشرطة على دوافعه السياسية أو الدينية
ليست هذه المرة الأولى التي يتعرض فيها الكاتب سلمان رشدي لمحاولة القتل ففي 3 آب 1989 فشلت محاولة لاغتياله بواسطة كتاب مفخخ حاول تمريره عنصر من حزب الله يدعى مصطفى مازح حيث انفجر الكتاب بشكل مبكر مما أدى إلى مقتل الأخير وتدمير طابقين من فندق بادينجتون في لندن وفي عام 2013 نشر تنظيم القاعدة في عدد جديد من مجلة تابعة له لائحة تحمل عنوان مطلوب حيًا أو ميتًا ضمت اسم سلمان رشدي
أخيرا نؤكد للمرة الالف بان الاعيب اميركا الخفية باتت مكشوفة وان تظاهرت في كل عملية قتل واستهداف وتصفية ومؤامرة بالغضب الشديد والاستنكار المتواصل والحزن المفجع وذرف دموع التماسيح
mahdimu.barak@gmail.com