هذه مقالة مناسباتية موسمية، أكتبها في كل يوم من نتائج الثانوية العامة، ومنذ زمن لا أتذكره، وما زالت مشاكل التعليم ومخرجاته تتفاقم مع كل أسف، وذلك رغما عن كل توجهات الدولة ومبادراتها والتغييرات الكثيرة التي تجترحها، بغية الوصول بالتعليم الى مستوى، يخدم المتعلمين، والدولة والوطن، ويبني مداميك، في سور العطاء والبناء لمستقبل أفضل ووطن أكثر قابلية للنهوض والتطوير والاستقرار والقوة.
أكثر من 200 ألف طالب وطالبة تقدموا فعلا لامتحان الثانوية العامة هذا العام، منهم طلبة نظاميون يقدمون الامتحان للمرة الأولى وعددهم وفق التصريحات الرسمية «التي أتذكرها»، تجاوز عن 160 الف طالب وطالبة، والبقية تقدموا للامتحان ابتغاء رفع معدل أو عن طريق دراسة خاصة.. ومع كل مناسبة للحديث عن امتحان الثانوية ، وعن نتائجه، ثم عن القبولات الجامعية والمقاعد والمنح والقروض، والرسوم الجامعية، والتخصصات الراكدة والجديدة ..الخ، نعود على بدء لم يتغير أو يتطور بناء على استراتيجياتنا، حيث نكتشف في كل مرة، ورغم تركيزنا على الالتزام بالخطط والاستراتيجيات، نجد أنفسنا قد ابتعدنا عن الخط الذي رسمته الدولة ومؤسساتها.
هذا العام، صرحت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي عن إلغاء أو وقف القبول في عدة تخصصات (عشرات التخصصات الجامعية)، بناء على حقائق، وأرقام وإحصائيات، فهي حزمة من مؤشرات وصلت لأصحاب القرار من تغذية عكسية، واعتمدت على بعض آراء وأفكار يتقدم بها مختصون، ونلاحظ العجب في مثل هذه التوجهات والأخبار، التي تتكرر على التوالي، بل وأصبحت محورا يعتبره المنظرون له «عصفا فكريا تربويا اقتصاديا»، بينما الحقيقة تقول بأن كثيرا من هؤلاء «غايبين فيلة، «، وغدوا هم السبب الجديد في إجهاض الاستراتيجيات التي ترسمها الدولة لتطوير التعليم وتحسين مخرجاته، وإعداد كفاءات وموارد بشرية تناسب السوق، وتجترح حلولا لمشاكل كثيرة، لا يمكن حلها لا بجرة قلم ولا بفكرة غريبة ولا «بسفسطة» الكلام مع المسؤولين..
الحقائق الكبيرة الصادمة، نعرفها جميعا، فالجامعات تنوء بمديونيات كبيرة، وطاقاتها الاستيعابية كما هي، وإغلاق بعض التخصصات فيها، ما هو إلا «تصبيرة»، وتنازل ورضوخ للمشاكل والأزمات، وليس حلا لها، فالجامعات تسعى لاستحداث تخصصات وبرامج تدريس جديدة، وغالبا ما تجد في مثل هذا الإجراء «فرصة» للتخلص من تخصصات رسومها الجامعية قليلة جدا، وتستبدلها بتخصصات جديدة تقرر لها رسوما جامعية مرتفعة، وليست دائما ما تكون هذه التخصصات تحاكي حالة سوق العمل فعلا، فهي لا تلبث وتصبح راكدة بعد عدة سنوات، كدليل على قصر نظر من اعتبرها «فتحا أكاديميا حين اقترحها أو قررها»، وأن سياستنا التعليمية أيضا أصبحت بدورها تدار بالمياومة ..
وعلى الجانب الآخر، نجد الحبل متروكا على غاربه في قطاع التعليم الخاص، حيث لا إلزام لمؤسساته بتقليص القبول في التخصصات التي التزمت الجامعات الحكومية بتقليص القبول فيها أو إيقافه، بل إن التصريحات الرسمية «بشرتنا» بأن التخصصات الطبية بدورها سيتم تقليص القبول فيها العام القادم وبعده، بعد أن أصبحت تعاني ركودا، وارتفعت نسبة البطالة بين خريجيها، والسبب الذي لم يذكره أحد، هو مؤسسات التعليم الخاص، التي تم منحها تراخيص بتدريسها، فاصبح المال هو الذي يحدد الشهادة الجامعية الممنوحة من بعض هذه المؤسسات وليس التحصيل الفعلي في الثانوية العامة.. ونحن في الطريق لأن يصبح الطبيب هو بالأساس خريج ثانوية عامة متواضع التحصيل، ملك أهله المال واستطاعوا أن يجعلوا منه طبيبا يداوي الناس والمجتمع والبلد وامراضهم!
لا أريد التحدث بسوداوية، لأنني متأكد من أن الدولة تحاول جهدها للنهوض بالتعليم، لكن بفعل فاعل مستتر، تتقوض كل الجهود، ونبوء بمخرجات أكثر سوءا.. والمشكلة تكبر ولا تصغر، حيث كان وما زال المطلوب «تطبيق الاستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية» في المدارس وصولا للجامعات.. وقد قلنا فيها الكثير.
مبروك للناجحين وأعانهم الله.