بعيداً هناك، في أحد السهول ذات التراب الأحمر، حملتني الشجون وقدماي، لأقضي بعض الوقت في خلوة مع النفس، اطلق سراح نظري المقيد بين السطور، ليجول بين السفوح الجميلة بطياتها المتناسقة، وكانت الشمس تتقهقر للمغيب، مودعة سحابة نهار حار صخب، تستجير من رمضائه كل المخلوقات، فتوقفت اراقبها متأملا ضعفها وهي تغوص بعد خطوط الجبال، وتسحب خيوطها اللاهبة من على جباه الخلائق، الى ان حانت مني نظرة على سرب من النمل، يتيه بين ذرات ذاك التراب الناعم، وقد تشتت دروبه ذهاباً وجيئة، وكأنه يبحث عن مفقود قد ضاع منه، فتارة يدخل جحوره ذات التلال الترابية الناعمة الصغيرة، وتارة يخرج منها مذعورا.
تمنيت لو كنت اعرف لغتهم فأسألهم ما الخطب، وكم غبطت النبي سليمان عليه السلام الذي علمه الله تعالى منطق الطير والمخلوقات، لقد أطلعه الله على ثقافات مجتمعات تشاركنا الارض، وتعلم منها ما وصل الينا - من آي القرآن الكريم - من صدق الهدهد، وحرص النملة، وقدرات الجن، بدون ان نصعد للفضاء لنعرفها، او نغوص في البحار ونتوه في السهول لنفهمها، وأثارت اهتمامي نملة بطيئة الحركة، قليلة التخبط دون غيرها، تتجه نحو خارج البيوت ثم تنظر لمن خلفها، فأحسست انها قد تكون القائد لتلك المملكة النشطة، تدلهم الى حيث يذهبون في هذا السهل الممحل، الذي لم يزرعه صاحبه هذا العام لا قمحا ولا شعيرا، لقد كانت ذات بوصلة تائهة، تحرك رأسها ليتبعوها، ولكن الاتجاه مفقود، والقحط والقيظ هو الموجود.
ووددت لو استطيع ان اخبرها لتعود وترتاح، فلن تجد شيئا ذا قيمة، لكني لا اعرف لغتها، وكأني بها تقول، ما أتت هذه الموجة من الحر الا لنخرج لنتم مؤونة الشتاء، يبدو انه سيكون شتاء طويلا زمهريرا، وما تم جمعه لا يكفي لقضاءه بأمن غذائي كامل، لم تيأس هي، ولا رفيقاتها، بل أنا من كان اليائس البائس، وهذا طبيعي في كل ذات انسان، اذا اصابه الشر كان قنوطا يئسا، واذا اصابه الخير كان فرحا جهولا. وفكرت بالمساعدة، وقررت ان آتي بصاع من قمح لانثره حول تلك البيوت الخاوية، لعلي بذلك اريح وادي النمل هذا من مشقة البحث عن قمح في ذلك السهل الاجدب، وفعلا اتيت في اليوم التالي بذات التوقيت محملا بالبر، لكني فوجئت ان النمل قد غادر المكان، الا نملة واحدة، وقد تكون تلك النملة هي نفسها ذات القيادة والحكمة.
خاطبتها مع علمي انها ستفهم كلامي، واني انا الذي لن يفهم ردها، واذا فهمت لن استطيع جوابا، فقلت ايتها النملة، بربك اصدقيني القول، في رأسي اسئلة تدور، كلها تبدأ بلماذا وكيف، فهل من تفسير لما يحدث؟ فلقد نسيت لماذا اتيت بالأمس الى واديكم، وشغلتني حركاتكم غير المفهومة عن شجوني، لعلي اتلقن درساً كنت بحاجة اليه، فقالت النملة.... او اظنها كانت ستقول..... بعد ان درست قليلا عن سلوكها في البحث عن الطعام وتخزينه.....قالت، وليتها لم تنبس بحرف؛
قالت والعز في رأسها المرفوع؛ نحن لا ننتظرك يا هذا؛ نحن لنا رب يرزقنا، فإن أمحلت يوماً دروبنا بفسادكم، فلن يتركنا ربنا برحمته وطاعتنا، اذهب انت وقمحك هذا، فلا حاجة لنا به، ولا بك، يكفينا منك ان لا تحطمنا بقدميك من حيث لا تشعر - وانت هائمٌ بتأملاتك الحزينة. لقد كانت صامتةً شامخة، لم تحرك ساكنا، ولم تقترب من قمحي، بل غادرته بكل انفة وكبرياء، فشعرت بالخجل، وعدت من حيث أتيت، اجر الخيبة واذيالها، فلا نملاً اطعمت، ولا شجونا اسكنت، بل زادت في النفس حسرات على ما قدمت وأخرت، فكم ضاعت منا لحظات شموخ كتلك اللحظات التي احسستها في سلوك نملة الوادي.
خلاصة الدرس؛ ما قالته نملة الوادي.
من مقالات - الاوهام تقتل
الدكتور المهندس أحمد الحسبان