بعضهم أصبح يعتبرها دولة، بلا حدود، تنمو وتترعرع في أحضان الدول والحكومات، رغما عن الأخيرة، بينما يعتبر آخرون بأن المنظمات غير الحكومية أذرع تساعد المجتمعات المحلية، وتدعم التوجهات التنموية والنهضوية للدول، وتعمل على أنسنة العولمة، حيث قد تصبح ثقافة السوق وسعي الشركات للربح، متوحشة بحق المجتمعات الفقيرة والأقل حظا.. وبين الرأيين تدور رحى السجالات والآراء المتضاربة.
المنظمات غير الحكومية أصبحت تشكل واحدة من نوافذ الفرج بالنسبة للحكومات الوطنية التي تعاني أزمات اجتماعية واقتصادية وسياسية، وذلك على الرغم من أن جزءا كبيرا من هذه المنظمات غير مسيسة ولا تقف خلفها قوى سياسية أو اقتصادية، وتنطلق من أفكار تطوعية بالكامل، وتقوم بمساعدة فئات اجتماعية محرومة، بطريقة متحررة تماما من بيروقراطية المنظمات الدولية الرسمية، التي تقوم بتقديم الدعم والمساندة للدول النامية والمجتمعات الفقيرة والفئات المسحوقة..
لا يمكننا تعميم الكلام الناقد كما لا يمكننا أن نثني على كل جهود هذه المنظمات غير الحكومية، فهي أصبحت تشكل نافذة فعلية للتخفيف من أزمات ومشاكل تواجه الحكومات وتقدم عونا مؤثرا لفئات كثيرة، وهي بهذا المعنى نافذة خير على الناس والبلاد، فثمة الكثير من المشاريع التي تدعمها هذه المنظمات دعما ماديا ومهنيا، وترفع من سوية أداء الناس في سعيهم للتخلص من الظروف السيئة التي تقع بفعل تغول السوق والشركات العالمية العابرة للحدود والمتعدية للجنسيات والثقافات، ويمكننا أن نقدم في مقالة أخرى مثالا أو أكثر على حجم التغيير الذي تحدثه هذه المنظمات في المجتمعات والفئات الفقيرة أو التي تعاني مشاكل حديثة مرتبطة بالعولمة أو التخلف الحضاري والفكري، أو التي تعاني ظروفا قسرية صعبة بفعل الصراعات وسياساتها وسياسييها..
من بين الأزمات التي تحدث عندنا وعند غيرنا، التسابق على التعامل مع هذه المنظمات، وبعد أن أصبحت الحكومات عاجزة عن تأمين فرص عمل برواتب مجزية لبعض النشطاء والأكاديميين والسياسيين، ومن يتمتعون بعلاقات مع بعض هذه المنظمات، أو يجيدون مخاطبتها، لإقناعها بفكرة لمشروع ما، فأصبح بعض هؤلاء يتسابقون حرفيا لاستجلاب مشاريع مدعومة من هذه المنظمات، وتكون آخر غاياتهم أهمية هي مساعدة الفئات المستهدفة بالمشروع المقترح، بل إن الغاية الأولى لدى هؤلاء هو تحقيق المصالح المالية أو بناء جسور من الثقة مع هذه المنظمات لتعزيز أوضاعهم السياسية وربما نفوذهم في صناعة القرار في بلدانهم أو في بلدان أخرى.
هذا التسابق المحموم أصبح يشغل بال الحكومات الوطنية وبال كل وطني، يؤمن بتقديم المساعدة للفئات المحتاجة، لكنه يرفض بشدة أن تتدخل هذه المنظمات في صناعة القرار الرسمي أوالتأثير عليه، لا سيما ما تعلق بالقرار السياسي السيادي والاقتصادي والتعليمي والثقافي ..الخ المجالات التي يعتبر التدخل فيها تدخلا في هوية المجتمع والدولة وأدوارهما المتوافقة مع منظومة القيم والتشريعات.
لدينا اليوم عدد كبير من المشاريع الكبيرة التي ترعاها أو تنفق عليها المنظمات غير الحكومية العالمية، ولا أحد ينكر بأنها تقدم خدمات كبيرة للمجتمع، وتغير من أنماط التفكير التنموي، فهناك مشاريع ترعاها الدولة، لكن تنفذها هذه المنظمات وتؤمن لها الدعم المالي، فالأمر يجري تحت سمع ونظر الحكومة، ونسبة الخطأ فيه معدومة، ولا يمكن أن يؤثر على دور الحكومة وولايتها القانونية، ولعل هذا أفضل أشكال التأثير والخدمات التي تقدمها هذه المنظمات، لكن في المقابل هناك أمثلة سيئة على أداء بعض المنظمات ومشاريعها، والتي لا تجري تحت سمع وبصر الحكومات، ونظرة واحدة إلى موضوع الغارمين والغارمات والمتعثرين والمتعثرات تؤكد ما نرمي إليه، ناهيكم عن بعض القضايا والأحداث الاجتماعية الفردية أو الفئوية التي تحدث ونسمع أو نقرأ عنها في مختلف وسائل الإعلام، وتدور حولها سجالات تشغل الدولة والمجتمع، وتكرس المزيد من الانهيار والخراب على مستوى الثقة بمؤسسات الدولة ودورها في حماية المجتمع وأعرافه وتقاليده.
حزمة المشاريع التي ترعاها الدولة ويتم الانفاق عليها من أموال الجهات المانحة، تفتح آفاقا معقولة للتنمية والنهضة، حين يتعذر على الحكومات توفير الدعم المناسب، أو تتكبل بقوانين دولية وتشريعات تكرس البيروقراطية، وتحول دون تقديم خدمة مطلوبة حتى لو توفر المال لتقديمها.