جلسنا عشيةَ الأمسِ في ذاتِ مقهىً جميل، تهبُّ على جلساتِه نسائمُ ليالي أيلولَ الطلِقة، مودّعةً قيظَ آبٍ اللهاب بطول ليلٍ ينذرُ بقرب الخريف، وبعليلِ نسيمٍ باردٍ يلامسُ بلطفٍ صفحاتِ الخدود، وتجاذبنا انا وصديقي المُقرّب، الذي طالما أشتاق لمجالسته - صدوقاً صادقَ الوعد مُنصفا - حديثاً ذا شجونٍ تارةً، وذا أملٍ موؤودٍ قبل بزوغ فجره تارةً أخرى، نتحادث ونحن في منتصف الطريق من مشوار العمر المأمول، ونتطلعُ لباقيه بحرقةِ الماضي ولوعاتِ الحاضر، وبكل حسنِ ظنٍ بالله، ولكنا لم نكن وحدنا في تلك الجلسة، فقد انضم الينا - بعد دنوِ الطعام الميسور - ضيفٌ لطيف، قطٌ مؤدبٌ ذكي، تلاه قطان منافسان له، وهنا بدأت قصة مقالي هذا.
وقف القطُ الابيضُ بجانب الطاولة، لم يكن بالكبيرِ الهرِم، ولا بالصغيرِ الغَشِم، كان بين ذاك وذاك في آخر ربيع العمر مثلنا، ورمقني بنظرةٍ مفادها - أن اطعمني، فتجاهلتُ نظرتَه مع فهمي لمقصدِه، فاقترب اكثر وحدق النظر، واطلق مواءه اللطيف ليُسمعني، وكأنه فهِمَ تجاهلي له، أو أنه اعتقد اني لم افهم نظرته تلك، وهنا كان لا بد لي من ردٍ لطيفٍ على تلك الدبلوماسية الراقية، فألقيتُ اليه بقطعة (لية) عامداً لا متباخلا، فانطلق ليشتمها فلم تعجبه، وعاد اليّ بمواءٍ آخرَ ليُلفت انتباهي، فأردت ان افحص ذكاءه هذه المرة، فألقيت بمثلها مرةً أخرى، فاشتمها وعاد اليّ بدون ان يأكلها، ولكن هذه المرة وقف على قدميه وربّت على ساقيَ اليسرى بيده ثلاث مرات مع مواء لطيفٍ ثالث فيه نبرةُ عتاب، فتبسمتُ بوجهه، ثم ألقيت له الثالثة وكانت لحماً صافيا، فذهب اليها كعادته، ولكن ثقته كانت اكبر من المرتين السابقتين، يبدو انه فهم مغزى ابتسامتي - اني فهمته وتوقفت عن خداعه، وعلى الاغلب انه اشتم رائحتها وهي تطير اليه، فأكلها مسرورا، والعجب ان زميليه القطين الآخرين لم يقتربا منه لينتزعاها منه، او ينازعاه عليها - لا عندما كانت شحماً، ولا عندما كانت لحماً، فأعجبتني قناعتيهما. ولم تنتهي القصة بعد.
غابَ قطُنا اللطيفُ هذا حيناً ليس بالكثير، ثم عادَ مقترباً بجرأة لم تكن بسابق عهده، وتعلو عينيه نظرةُ استزادةٍ من طعام، لدرجة أن لين تعاملنا معه دفعه ان يجالسنا على كرسي ثالث كان على ذات الطاوله، فجلس مشاركاً المائدة منتظراً - على ما يبدو - ان نقدم له صحن طعامٍ مع شوكة وسكين وملعقة، حتى ظننا انه سيشاركنا دفع الفاتورة ومرافقة طريق العودة، كيف لا وقد اعتبر نفسه صديقنا الثالث، فنظر كلانا إليه بضحكةٍ مدوية، صدرت من القلب، وكسرت جمود الصمت، وصدحت في يأس الأمل، وادخلت لنفوسنا سروراً عابرا، مفاده قناعةٍ تقول: ان الدنيا قد لا تساوي أكثر من لقمة هنيئة تدخل سرورا - ربما جاوز حده لمشاركةٍ تطفلية - لقطٍ مؤدبٍ جريء. واتفقنا ان نلقي له الرابعة اكراماً لحسن تقربه بطلب الطعام، ولجرأته بالجلوس في مرتقىً صعبٍ على مثله، ليغادرنا هو واصحابه الى غير طاولة و لغير رجعة، فتناولها مغادراً بعد ان فهم اين يجب ان يكون مكانه الطبيعي، واتممنا طعامنا بحمد الله، وغادرنا المكان بقيمة جديدة مضافة، ولكن بقي في رأسي بواقي كلام يدور، يُصار به لخلاصة مقالٍ ودرس.
خلاصة القصة؛ في عالم الضجيج هذا، نحمدُ اللّه ان ارواحنا وُضعت في أحسن تقويم، في خلقٍ كهيئةِ انسانٍ مُكرّم، ولم تكن في دواب الارض غيره، مع انها جميعا ارواحاً من أمر الله، لها ثقافاتها ولغاتها ولطفها وعاداتها المختلفة - أمماً أمثالنا، وبعد الحمد، فإن في كل كبدٍ رطبةٍ أجر، وفي بني البشر كذلك من هو اشد حاجة، لكن بهم خصاصة تمنعهم. قيمة الحياة بلحظاتها الجميلة اذا اردناها تشاركية - لا تنافسية، واذا اردناها لطيفة - لا تنازعية، فرُبّ درسٍ من قطٍ أبلغُ من كتابٍ لمفكر - غير انسان.
من مقالات - الصمت في عالم الضجبج.
الدكتور المهندس أحمد الحسبان.