زاد الاردن الاخباري -
كتب حسين بني هاني - لا زالت الديموقراطية تتربع على عرش الفكر السياسي، وستبقى كذلك دون منازع، الى ما شاء الله، رغم كل ما يكتنفها ويحيط بها من ملاحظات، تمس وقارها، كوسيلة فضلى للوصول الى السلطة. بل يعتبرها بعض السياسيين جوهرة النضج الإنساني الرفيع، معيدين الفضل بابتكارها لفلاسفة الثورة في أوروبا، ورغم انه لا يوجد بديل أفضل منها حتى هذه اللحظة، الا انها أصبحت بنظر أصحاب الفكر الإنساني اليوم، ما هي الا جنة شهبندر التجار، ولعبة رأس المال، بعد ان غابت قيمها الرصينة، وابتعد تطبيقها كثيراً عمّا أراده دعاة الحرية الإنسانية، أمثال (روسو، فولتير، هوبز، لوك) وغيرهم. اذ لم تُعرف فضائلها بالنسبة للسياسيين الا من خلال تطبيق الأنظمة الأخرى، بعد ان نخرها المال وهدد قيمها، واحالها الى سلع يتداولها الطامعون من الساسة والأحزاب، اللاهثة وراء السلطة، دون أي اعتبار لمصالح الناس، واحترام حرياتهم، التي عبّر عنها أولئك الفلاسفة الكبار، أصحاب النوايا الإنسانية الحسنة، البعيدة عن الجشع واستغلال حاجات الناس.
لقد تعود المتابعون للشأن السياسي، ان يروا تلازم الديموقراطية مع نظام السوق، تلازماً طردياً، تماماً مثل تلازم العرض والطلب، اذ حيثما تجد الديموقراطية الحقيقية، تجد نظام السوق تابعاً فورياً لها، ولكنك قد ترى هذا الأخير (نظام السوق)، دون أن ترى معه أي صيغة ديموقراطية للحكم، ولدينا أمثلة كثيرة يضج بها العالم الثالث، لا تشذ عن هذه القاعدة.
كانت الديموقراطية ولازالت، قيمة فكرية عظيمة، حتى دخل عليها الاعلام، ووضعها في كف عفريت، يعبث بها كيفما شاء، بل استطاع ان يحولها في الغرب المتجبّر، من آلية لتمثيل الشعب، الى مسرح مرايا تعكس كل واحدة صورة الأخرى الى ما لا نهاية، مما جعل الحقيقة تضيع بين الناس، فيما أبقى على الديموقراطية، مثل صنم يعبده الناخبون، ويقدمون له القرابين عشية كل مناسبة انتخابية، بعد ان سيطر الخوف على السياسيين من قول الحقيقية، التي تهبط بشعبيتهم الى الحضيض، بفعل حرية النشر، وهذا ما منع الانتخابات، حتى في الغرب، من صنع الديموقراطية، رغم توفر الحرية بشكلها الواسع، لارتباط العملية برمتها بدوائر متتالية من التضليل، ووفق حلقات مترابطة، كما لو انها كواكب تدور في فلك شمس السياسي او الاقتصادي او الحزبي.
لقد اعتقد الرومانسيون من الساسة وللأسف، ان الديموقراطية وحدها، هي ام الليبرالية وحضنها الدافئ الحنون، طالما انها تحقق قيمتي الحرية والسوق، ولكن هذه (الليبرالية) لم تنتصر لوحدها وبقوتها الذاتية، وانما بسبب التجربة البائسة الاشتراكية للاتحاد السوفييتي الفاشلة. لقد نجحت الرأسمالية نجاحاً باهراً في خلق الثروة، ولكنها اساءت توزيعها ولا تزال، الامر الذي جعل الديموقراطية في ظل ربيبتها الليبرالية الاقتصادية، خدعة يصعب هضمها، ولا تستقيم معها قيمة الحرية، في ظل غياب العدالة، خاصة عندما يكون العمل والانتاج ثروة الأمم الحقيقية، الموّلد لرأس المال، وليس البنوك التي أصبحت في عالم اليوم، بمثابة بيوت عبادة، يؤمها الناس، لانها تمنحهم الخلاص وتعطيهم صكوك الغفران من شقاء الدنيا، ويحتاجونها للتغلب على مصاعب حياتهم، وتحت عناوين برّاقة عريضة، تدعو لتعزيز المبادرة الفردية، في ظل نظام ليبرالي لا يرحم ضعاف القدرات، ويجعل بعض انتصار افراده المالي – هذا ان حصل – انتصاراً فظاً وبطعم المرارة والهزيمة النكراء.
شئنا ام ابينا، ستبقى الديموقراطية قبلة الأحزاب والسياسيين والاقتصاديين وغيرهم، أولئك الذين يجدون فيها متاعهم، وفي محرابها فيض مصالحهم، يتلون في فضائها ومن اجلها في ذات المحراب، كل تمائم الخداع والتضليل، طالما انها لا زالت الفكرة الوحيدة، التي تمكنهم من الوصول للسلطة، ولو كانت على حساب مصالح الناس وحاجاتهم ومبادئهم، تماماً كما لم يفكر به او يتمناه أصحاب هذه الفكرة السامية اصلاً، أولئك الدعاة المخلصون من فلاسفة الثورة في أوروبا، ورواد الفكر التحرري، صناع النهضة، الذين اقاموا فكرتهم على احترام إنسانية الانسان، بدل استغلاله بحجة الديموقراطية.