في ادب الرحلات، يروى عن رحال عربي انه مر على قوم، ويكتبون على شواهد قبورهم عدد الايام السعيدة التي قضوها في حياتهم.
و تلك شواهد القبور لموتى قد تكون اعمارهم يومًا او يومين او صفر يوم.
و عبارات تقول : ان الحياة والعمر يقاس بعدد ايام السعادة والفرح والسرور. ولم يكن ذاك القوم ليجمع على مفهوم استثنائي للحياة والموت، وما ينسب للانسان من عمر زمني في الفكر والثقافات والاديان والعقائد البشرية ، فهل هو قد عاش ام لا؟
وأتذكر، وانا اقرأ اخبار هذا القوم، دلالات كثيرة حول مفهوم ومعنى الحياة. بل هو انفجار دلالي ورمزي، فماذا يعني ان يموت انسان دون ان يدون على قبره يوم واحد من الحياة ؟!
هنا يرقد انسان تعيس، وانسان عاش ام لم يعش الحياة ؟! وهنا يرقد انسان لربما اجتهد وحاول وناضل من اجل ان يعيش ولو ليوم واحد،
ودون مبالغة كانت التعاسة اقسى واشد ايقاعا.
وما وراء الموت، فيبدو ان ذاك القوم في عقائدهم، يؤمنون بمعنى ديني اصولي للثواب والعقاب، والخلاص.. فما هو قدر ومصير انسان عاش ومات دون ان ينقش على قبره يوم واحد سعيد، وبمعنى انه لم يعش، انجر الى الموت دون حياة.. وهل الطبيعة تمهل او تمنح فرصة اضافية، وشوطا اضافيا، وبدل وقت ضائع ؟!
سمعني صديق اتحدث عن القوم وشواهد قبورهم، وكيف يقيسون معدل العمر والحياة ؟ ضحك، ومستهترا بالكلام، وفكر قليلا، واغمض عينيه لثواني، ورحل مع شريط الماضي، واستقيظ مرعوبا من نوم قصير، وقال : اني اعتذر من استهتاري، وارفض ان اعترف كم يوما عشت في حياتي ؟
الطفل يولد يبكي ويصرخ.. ولا اجد قبولا لاي تفسير بيولوجي وعضوي، وما يفسرونه بانه تعبير عن شعور بالجوع ونقص اوكسيجن والبرد، وغيرها.
يبكي الطفل تعبيرا عن رفضه للحياة ورغبة مضادة للولادة ، انه اول قرار فطري ونابع من اللاوعي يتخذه الطفل من الحياة ..
ويموت الانسان باكيا.. من اول لحظة الولادة تستوطن بالانسان صراعية ثنائية بين الموت والحياة.
عالم النفس الشهير فرويد في كتابه ما فوق اللذة.. راى في مرضاه، مثل الماسوشية والانتحار والحرب والإيذاء والقتل، فهل هناك شيء في التكوين الإنساني يدفعنا إلى تخطي غريزة البقاء والحفاظ على النفس، وإيذاء أنفسنا والآخرين؟ وجد فرويد في سؤاله أن كل الغرائز تصنَّف تحت غريزتين اثنتين: الحياة (أيروس)، والموت (ثاناتوس).
فماذا يحدث اذن عندما يقدم الانسان على الانتحار؟ هل يذعن لغريزة الموت ؟ واي قوة تنتصر غريزة الموت ام الحياة ؟ واذا ما انتحر الانسان واستوطنت في نفسه مقاومة الحياة فيندفع نحو القتل والعدوانية، والغرائز العنيفة.
من ينتحر يفشل في الحياة، ومن يفشل بالانتحار يصنع موتا جماعيا للاخرين، والانتحار هاجس ساكن في الانسان، وليس هناك انسان لم يراوده يوما تفكيره بالانتحار .. وسارتر الفليسوف الفرنسي في مسرحية الابواب المغلقة قال : الجحيم هو الاخرون، انه ليس النار والحطب والحريق.
لم يخطر ببال الانسان السؤال، كيف ستحسب سنوات كورونا من عمره ؟ وهل ستقيد ضد مجهول ؟ ام ان شواهد القبور ستكون فارغة، والسبب انه زمن الوباء، وما العنه.
و لما سئل مواطن من ذاك القوم، كم عمرك ؟ فقال: «جبر «من بطن امه الى القبر. نسمعها ونضحك، وكأنها نكتة ساخرة، ولو اننا امعنا التفكير في شريط الحياة، لكان جواب «جبر « هو جوابنا اجمعين.