المدارس المهنيّة والتي يمكن اعتبارها أكثر المعارف موضوعيّة وإجرائيّة لأنها متبوعة بنتائج ماديّة وملموسة، تحمل في طيّاتها توجيهات هي في الواقع قولبة أيديولوجيّة بحيث أن التقسيم المهني يمهّد لتبرير التقسيم الاجتماعي.
هنا تحاول المدرسة شرعنة موقع كل فردٍ عن طريق التقسيم غير المتكافئ في كل شيء، شرعنة أن البعض خُلِقوا للإدارة والملكية، أما الآخرين وهم الأكثريّة الساحقة فقد خُلِقوا للتنفيذ والتكيُّف مع الواقع الذي لا مناص لهم اتجاهه.
الموجِّه المهني يتأثر بصورةٍ غير مباشرة أثناء عمليّة التوجيه بالأصل الاجتماعي والثقافي للطالب، ويقوم بحساب إمكانيات النجاح له انطلاقاً من وضعه الاقتصادي ومستنداً لعمليّات الرسوب والنجاح المدرسي.
إن الطلبة الفقراء تكون آمالهم محددة ومحدودة شكلاً ومضموناً بحيث تمنع عنهم الحلُم بغير الممكن، فتراهم يقولون عن بعض التخصصات والمهن» هذه ليستْ لنا ولم نُخلق لها»، وهذا تعبير عن المنع الموضوعي لعدم امتلاك القدرة التي تمنح حق احتكار الممكنات المستقبليّة والأولويّة عليه.
فالتوجيه المهني غالباً يوجّه لأبناء الفقراء والطبقات الشعبيّة، لأن أبناء الأغنياء يملكون إلى جانب المال والثقافة، جميع المعلومات اللازمة لتخطيط المستقبل الدراسي والمهني، فيما يفتقر أبناء الفقراء لمثل تلك المقوِّمات، فتراهم يطلبون مساعدة الموجِّه المهني لإرشادهم بما يتفق وميولهم وقدراتهم وإمكانياتهم.
لقد مارستُ التوجيه المهني لأكثر من عشرة أعوامٍ، وفيها لا أذكر أنني يوماً ما وجّهتُ طالباً فقيراً لمتابعة دراسته الأكاديميّة بناءً على رغبته، ولا أذيع سرّاً حين أقول أنه طيلة فترة عملي في مجال التوجيه المهني لم يحدث أن راجعني طالبٌ من أبناء الطبقة الميسورة إلا في حالاتٍ محددة بظروفٍ خاصّة كأن يكون الأب يريد أن يعلِّم ابنه مهنته أو مهنةً ما لكي يعمل في مصالحه الخاصّة.
كذلك فإن البرامج التعليميّة برمّتها تقف عند مرحلة التطبيق لما يتم تعليمه.
أي أن الطالب ليس مطلوباً منه إشغال فكره مطلقاً بل إن كل ما هو مطلوبٌ منه إشغال يديه.