من اول ما اشتغلت في الصحافة كل عام نكتب عن تقرير ديوان المحاسبة.
و هذا العام تحديدا، وقبل ان اجر قلمي للكتابة عن التقرير، خلصت الى لب القول والموضوع، و ان الفساد في بلادنا قضاء وقدر، ولا يطلب الناس الا اللطف فيهما.
في الاردن فسادان : كبير وصغير.
الثاني يمارسه موظفون صغار وعاديون، رشوى وسرقة مال عام، واستغلال سلطة على الخفيف، وتزوير و تلاعب في اوراق رسمية، وواسطات بالمكافاة والترقيات، وهؤلاء ضعاف لا حول ولا قوة لهم.
و اما الاول : يمارسه كبار ظفروا في نعيم السلطة ووافر خيرها، واخذوا مضادات ضد مقاومة الفساد، ومناعتهم تحميهم من اي مساءلة قانونية او سياسية او اخلاقية.
ان ما فسد كثيره او قليله حرام..اعذروني على اعادة توظيف المقولة الدينية. فالفساد يبدأ صغيرا وحملا وديعا، ويكبر ويتضخم وليتحول الى وحش كاسر، وديناصور قاتل يلتهم الصغير والكبير.
لا منزلة فاصلة بين الفسادين : الصغير والكبير.. سواء كانت الجريمة بدينار او مليون ومئة مليون دينار.. هي مسألة مبدئيا متعلقة بالاخلاق واحترام القانون، والايمان بالدولة وسيادة وعدالة قرارها.
ومن يعرف الفساد مثلا.. من حصل على مقعده الجامعي بالواسطة، وعين في وظيفة بالواسطة، وترقي بالوظيفة بالواسطة، ونال امتيازات ومكافات وترقيات بالواسطة، يولد وينمو ويكبر موهوبا ويتدحرج في صناعة فساد كبير.
الكلام عن الفساد لا ينقطع.. واينما وليت وجهك تسمع كلاما عن فساد وفاسدين.. لربما ان منسوب الكلام عن الفاسد انحدر تأثيره، وتراجع، وفي سنوات الربيع العربي وولادة الحراك الاردني كان الكلام غلظيا وثقيلا على مسامع اهل السلطة..
الفساد على ضخامة تأثيره، وكم اهلك الاقتصاد الاردني، وكم فتت الدولة، فانه مجهول النسب والانتساب، ويقيد ضد مجهول.. فساد دون فاسدين، واموال هائلة ضاعت وتبخرت، والقضايا مقيدة ضد مجاهيل.
ولو فتحت قضية فساد واحدة كبيرة لاعادة ثقة الاردنيين في محاربة الفساد.. فك الارتباط بين الفاعل والفعل، والفساد والفاسد، ابقى سجالا مفتوحا ومزمنا بالاسئلة عن ملفات وقضايا فساد كبرى عالقة في ذاكرة الاردنيين.
وتسمع دون خجل بعضا من براغماتيي السلطة والسياسة يشرعون ويفتون بفساد خفيف وصغير، ويرون ان ذلك بمثابة رشة ملح وسكر وبهارات لتمرير قرارات وتجاوز تعقيدات البيروقراطية، وكأن الوباء لا يبدأ من اصابة مريض بزكام خفيف.
بكل ما ينطوي من حديث الفساد، فقد اصبح هناك اعادة انتاج للمفاهيم العامة، فيقال عن الفاسد شاطر وفهلوي، وقادر ان يدبر رأسه، والفساد كان عيبا وشيمة اجتماعية دنيئة وتنقص من قدر الانسان اخلاقيا.
تقرير ديوان المحاسبة لعام 2021 كتب بخطوط الطول والعرض،ودق ابواب الخطر التي تداهم المال العام وسيادة وعدالة القانون.. لست متشائلا ولا اقول انه قد فات الاوان، فيمكن استدراك ما تبقى ان كان هناك ارادة صادقة وحرة.