كل ما فعلته قطر الشقيقة أنها قدمت صورتنا التي نتمناها، وأفرزت أفضل ما لديها، وما لدينا كعرب ومسلمين، لم تتنازل عن هويتها، ولم ترضخ لبعض الدوائر الغربية غير المنصفة، التي لا تريد إلا رؤية نفسها وحضارتها في المونديال، القطريون أشهروا «لا « كبيرة بوجوه هؤلاء الأساتذة المغشوشين الذين اعتقدوا، في غفلة انحسرت عنا فيها شمس الحضارة، أننا أمة متخلفة، وأن ما ما أنتجوه من حقوق للمثليين، وتدمير لقيم الإنسان، وانتهاك لكرامته، هو «كاتلوج» العالم الوحيد للتقدم والتحضر .
قطر أدهشتنا، وفاجأتنا مرتين : مرة حين انتزعت فرصة تنظيم مونديال الرياضة قبل نحو 11 عاما، ثم نجحت بتجهيز أفضل المرافق والملاعب لإقامته، ومرة أخرى حين استثمرت هذه المناسبة العالمية لإبراز نموذج مختلف وأصيل، مزدحم بصور الاعتزاز بالنفس وتقدير الذات، حيث اختلط الإنجاز السياسي بالديني، والداخلي بالخارجي، ليشكل أجمل مباراة يمكن أن يشهدها أي مونديال عالمي، مباراة سجل فيها القطريون اهدافا نظيفة في مرمى الأصدقاء والخصوم معا، ولعبوا فيها كأبطال، لا كمجرد هواة يجلسون على دفة الخوف والاحتياط .
أدهشتنا الشقيقة قطر، أيضا، حين لم تصغّر أكتافها العربية والإسلامية أمام مواجهة الضغوطات التي تعرضت لها، وما أكثرها، ولم تطأطىء رأسها لقبول «التعاليم « التي تتناقض مع دينها وتقاليدها، ولم تقبل أن يفرض عليها دعاة التعايش الثقافي، وحقوق العمال، و حملة مباخر إقصاء الدين عن الحياة، أقصد هؤلاء التجار الكبار الذين حولوا بلادنا إلى أسواق لاستهلاك بضائعهم الفاسدة، لم تقبل أن يفرضوا عليها شراء أية ماركة، لا تتناسب مع طبائع الدوحة، وأصالة أهلنا القطريين .
قطر رفضت أن يكون مونديالها صورة مطابقة لعشرات المونديالات التي شهدتها عواصم الغرب، ورفضت أن تكون نسخة مشابهة لمجتمعات أخرى، لها تاريخها و خصوصياتها، ثم انتصرت لتاريخيها ودينها وعروبتها، قطر الدولة الصغيرة بالجغرافيا، الكبيرة بالانسان والانجاز، قدمت لنا، ولغيرنا أيضا، دروسا عميقة في احترام الذات والآخر معا، وفي مواجهة التحدي بالعمل والإنجاز والإبداع، ثم الاستعلاء عن الوصيات و الأوامر، والاعتزاز بالماضي والحاضر، والأهم أنها كشفت لنا صورة الآخر الذي يتحصن في مركزيته الثقافية، ولا يرى العالم من حوله إلا مجرد اطراف وهوامش، تدور في فلكه.
راهن الكثير من الأصدقاء والشامتين، على فشل مونديال قطر، ونصبوا ما لديهم من مصائد ومكائد لإضعاف عزيمة القطريين وتيئيسهم، لكن ما فعلته الدوحة صب باتجاه آخر، فلأول مرة تشهد عاصمة عربية مثل هذه التظاهرة العالمية، ولأول مرة تنجح عاصمة عربية في «تعريب» مناسبة دولية يتابعها مئات الملايين من البشر ، ولأول مرة تواجه عاصمة عربية موجة الكراهية ضدها، بالإصرار على توزيع كل ما لديها من إنجازات وقيم متحضرة على العالم .
تعلمنا قطر العزيزة أن أمتنا ما تزال حية، ولم تمت بعد، وأن لديها ما يكفي من خزانات لمنتجات إنسانية وحضارية، تستطيع أن تهديها للعالم بلا استكبار ولا منّة، و تعلمنا أيضا أن الثقة بالنفس والإنجاز، والحزم والصلابة في مواجهة الاستقواء والتبعية ، هما أقصر طريق لانتزاع احترام الآخرين وتقديرهم، وتجاوز مكائدهم، وتسجيل أنظف الأهداف في مونديالات التحضر، لا، كما يفعل الآخرون، في مزادات الإنجازات الوهمية، أو أسواق النخاسة بالمبادئ والأوطان، والبشر أيضا.