مهدي مبارك عبد الله - الحرب في أوكرانيا منذ اندلاعها أثارت أزمةً حادة في السياسة الخارجية للكيان الإسرائيلي بالتوازي مع ما يعيشه من قلاقل وخلافات داخلية وتهديدات خارجية كبرى تخشاها تل ابيب أكثر من أي وقت مضى وهي تعتمد كليا على الدعم الدولي من القوى العالمية وفي مقدمتها أمريكا وبعض حلفائها
تطورات المعارك في أوكرانيا واتساع نطاقها وتسارع نتائجها خلقت واقع جديد ومتغير في إسرائيل حيث أصبحت حائرة ما بين مواقف الشرق والغرب مقابل سعيها الحثيث في الحفاظ على جبهتي روسيا وامريكا وأوروبا وبنفس الوقت بحثها المتواصل عن الحلول التي يمكن أن تخفف من حدة غضب الروس وتبدل مواقفهم
في الأشهر الأخيرة أصبحت مواقف تل ابيب من الحرب في أوكرانيا قضيةً مثيرةً للتوتر في العلاقات بين موسكو وتل أبيب وهو ما دعا الكرملين الى اتخاذ بعض الاجراءات العقابية التدريجية ضد إسرائيل حيث قدمت الحكومة الروسية مشروع قرار إلى مجلس الأمن الدولي في حزيران الماضي يدين الهجوم الإسرائيلي على مطار دمشق وعززت الموقف الدفاعي لسوريا ضد الهجمات الجوية الإسرائيلية كما حظرت في تموز من العام الجاري أنشطة الوكالة اليهودية في روسيا
بعد ذلك بقليل في شهر أيلول انتقدت السفارة الروسية في مصر تل أبيب لتجاهلها الكامل لحياة الفلسطينيين ومستوى العنف والوحشية صدهم واستضاف الكرملين قادة حماس في موسكو وفي خطوة أخرى التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين برئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في نهاية تشرين الأول الماضي
القرارات والإجراءات الروسية المتوالية أظهرت للمتابعين بكل وضوح أن موسكو تعمل على زيادة دورها في مجريات التطورات على الساحة الفلسطينية خاصة بعد تنامي انعدام الثقة لدى العرب في المنطقة وتحديدا تيار التسوية الفلسطيني تجاه أمريكا ليكون في ذلك رسالة تنبيه روسية قوية لإسرائيل
التحذيرات الروسية المباشرة وغير المباشرة دفعت قادة الكيان الاسرائيلي إلى التصرف بحذر أكبر اتجاه مبادرات تقديم أي دعم عسكري لأوكرانيا لان ذلك سيزيد من غضب الكرملين ولهذا السبب رفضوا نداءات وطلبات كييف للحصول على أسلحة ومعدات عسكرية إسرائيلية استراتيجية ثقيلة ومتطورة حيث طلب وزير خارجية أوكرانيا دميتري كوليبا قبل شهر خلال محادثة له مع يائير لابيد رئيس وزراء الإسرائيلي تزويد بلادة بنظام الدفاع الجوي والصاروخي عقب ضربات صاروخية وهجمات مسيرات انتحارية واسعة نفذتها القوات الروسية ضد أهداف عسكرية وبنى تحتية في مختلف مناطق البلاد
بيني غانتس وزير الحرب الإسرائيلي اكد لوزير الدفاع الأوكراني أنه بسبب القيود العملياتية التي تواجهها إسرائيل فإنه لا يمكنها إعطاء أي أسلحة لأوكرانيا وأن تل أبيب في الاصل لا تملك القدرات الإنتاجية لتزويد أوكرانيا بأنظمة دفاع جوي ولا يوجد فائض متاح منها وهوما دفع كييف للتعبير عن استيائها الكبير من رد تل أبيب التي لا زالت تحتاج دعم الحكومة الأوكرانية لجذب وتشجيع اليهود الأوكرانيين المشردين للهجرة إلى الأراضي المحتلة بسبب ظروف الحرب القاسية وفي الشهر الماضي قال زيلينسكي إن إسرائيل لم تقدم لبلاده أي شيء للمساعدة في الدفاع عن نفسها بهدف تخفيف التوترات مع موسكو
بعض الخبراء والمطلعين يعتقدون بان هناك الكثير من الشبهات لا يمكن التحقق منها حول عدم وجود مساعدات تسليحية إسرائيلية لأوكرانيا كما يرون أن عدم إرسال تل ابيب أنظمة دفاعية لأوكرانيا يعود الى خوفها من كشف ضعفها في التصدي والمواجهة كما حصل في معرك سيف القدس في قطاع غزة وهو ما يعني خسارتها لجزء مهم من عائدات تصدير سلاحها إلى بعض الدول العربية وبالنتيجة التقليل امكانية التطبيع في قطاعي الدفاع والأمن المهمين
من الملاحظ جيدا ان روسيا في السنوات الأخيرة توجهت لتوسيع العلاقات مع بعض الدول العربية والإسلامية في مجالات الأمن والاستقرار والقضايا الاقتصادية خاصةً سوريا وليبيا وايران ومحور المقاومة كما سعت بجدية متزايدة للدخول في عمق القضية فلسطين باعتبارها القضية المركزية للعالمين العربي والإسلامي وهذا النهج لا يتوافق مع مصالح الكيان الإسرائيلي بأي شكل من الأشكال بالإضافة الى تعزيز وجودها العسكري في غرب آسيا وشمال إفريقيا وهو ما يشكل خطر كبير على المصالح الإسرائيلية الحيوية في تلك المنطقة
وفي الوقت نفسه عملت موسكو أيضا على تمتين العلاقات مع بعض الدول العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة وقد تجلى ذلك بوضوح في تعاونها مع السعودية والإمارات في قضية أوبك بلس لخفض مليوني برميل من النفط يومياً الأمر الذي أثار غضب الولايات المتحدة من الموقف السعودي المستقل
قبل أيام قليلة وبعد انسحاب القوات الروسية من منطقة خيرسون في اوكرانيا رصدت آليات عسكرية مصفحة إسرائيلية الصنع من نوع امير تعمل في خدمة قوات كييف وهذه أول مرة يشاهد فيها الجيش الأوكراني يستخدم آليات من إنتاج إسرائيل ولم ترد حتى الساعة أي تفاصيل حول طريقة وصول هذه الآليات إلى أوكرانيا
على الرغم مما تدعيه إسرائيل بانها رفضت تزويد الجيش الاوكراني بمعدات ومنصات دفاع جوي وعربات عسكرية وبنادق وعتاد ورادارات وغيرها فقد أكدت عدة وسائل اعلام اسرائيلية أنّ شركة صناعات أمنية إسرائيلية باعت الجيش الأوكراني منظومات مضادة للطائرات المسيرة ( anti-drone ) قادرة على اعتراض عمل طائرات مسيرة قتالية والتشويش عليها
حيث جري بيع هذه المنظومات والعربات والعتاد عن طريق بولندا التي تشكل عملياً وسيطا لنقل الأسلحة الإسرائيلية خفية إلى أوكرانيا من أجل الالتفاف على الحظر الذي تفرضه إسرائيل على بيع أسلحة متطورة إلى كييف وكل ذلك يجري بعلم واطلاع وزارة الأمن الإسرائيلية وبدعوة صريحة من أعضاء في الكنيست الإسرائيلي إلى إرسال القبة الحديدية إلى أوكرانيا ناهيك عن وجود إسرائيليون في جبهات القتال في أوكرانيا ومطالبة بعض المواطنين الإسرائيليين في إرسال مساعدات عسكرية إلى أوكرانيا
في جانب اخر من الاستفزاز الإسرائيلي لروسيا صوتت تل أبيب في آذار الماضي لمصلحة قرار الأمم المتحدة الذي يدين الهجمات الروسية على أوكرانيا وبعد بضعة أشهر طالبت ومعها 93 دولة أخرى بطرد روسيا من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة
إسرائيل تلقت مؤخرا تحذيراً واضحاً من موسكو مفادها أنه إذا حاولت أن تنقل إلى أوكرانيا منظومات دفاعية إسرائيلية الصنع أو صواريخ اعتراضية أخرى ولو عبر دولة ثالثة فإن هذا الأمر سيعد تجاوزاً للخطوط الحمر وسيفسر بانه خطوة متهورة ستكون لها تداعيات عاجلة وخطيرة تلزم موسكو بالرد المباشر وغير المباشر وبطافة السبل والوسائل
بينما لم يتسلم بنيامين نتنياهو السلطة بعد باعتباره الفائز في الانتخابات الأخيرة فإن من أهم القضايا التي تشغل بال القادة الاسرائيليين هي سياسة الحكومة المستقبلية تجاه التطورات في أوكرانيا وخاصة موضوع إرسال المساعدات العسكرية في ظل وجود خلافات كثيرة حول منحها او وقفها للحفاظ على علاقات ثابتة مع الطرفين المتورطين في الحرب بالرغم مما تواجه إسرائيل من ضغوط تدريجية من امريكا للتخلي عن موقفها المحايد
إسرائيل ربما في الواقع قاومت مطالب بعض الأطراف بإرسال أسلحة إلى كييف إلا أن هذه الممارسة من المتوقع ان تتغير عندما يتولى نتنياهو السلطة خاصة يعدما اعلن مؤخرًا في خطاب له إنه ( سينظر في إمكانية إرسال أسلحة إلى أوكرانيا ) فهل هو قادر حقًا على تنفيذ في ظل المشاكل الداخلية المتصاعدة في الأراضي المحتلة ووجود بعض العقبات على الساحة الدولية التي تعترض طريق إرسال المساعدات العسكرية لأوكرانيا والتي لا يمكنه التغلب عليها كما ان ذلك ستعطل حتما العلاقات الثنائية مع روسيا وتجعل إسرائيل تواجه جملة مشاكل وتحديات للتعامل مع التهديدات من الخارجية المحتملة
ليس سرا البوح ان اسرائيل تتمتع بعلاقات ثقافية قوية مع كلا البلدين أوكرانيا وروسيا وان ما يقرب من 15 ٪ من المهاجرين أو أطفال المهاجرين هم من الاتحاد السوفياتي السابق ومعظمهم من روسيا وأوكرانيا وفي عام 1990 أقامت إسرائيل روابط دبلوماسية واقتصادية قوية مع روسيا كما دشن رئيسا الوزراء السابقين أرييل شارون وبنيامين نتنياهو علاقات عمل شاملة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كما استخدمت الحملة الانتخابية لنتنياهو في عام 2019 صور لقاءه مع بوتين في إعلاناته
نتنياهو الذي التقى بوتين عدة مرات في العقد الماضي يعرف اكثر من غيره أنه إذا قدم أي مساعدات عسكرية الى أوكرانيا فسوف تغضب موسكو وينفجر التوتر معها وستعمل الاخيرة على إعادة النظر في جميع الاعتبارات المتعلقة بقواعد الاشتباك والدعم لفصائل المقاومة الفلسطينية وانها سترد على ذلك فورا كما يدرك نتنياهو ان الأثر الأول سيكون على الارض السورية بمنع الهجمات على القوات والقواعد السورية والشحنات والمخازن والمعسكرات الإيرانية والتصدي لها بحرفية تامة
الأخطر بالنسبة لاسرائيل انه ربما يصل الأمر الى الجولان المحتل ويجعله غير آمن كخطوة متقدمة ويجب هنا ان نذكر نتنياهو بما قاله مندوب روسيا في الأمم المتحدة قبل أشهر في كلمة رداً على موقف تل أبيب الداعم لكييف إن روسيا لا تعترف بسيادة إسرائيل على الجولان المحتل وكذلك لن يكون دورها منفصل عن التطورات التي تحدث في الضفة الغربية حيث تشعر إسرائيل بقلق بالغ إزاء تصعيد فصائل المقاومة الفلسطينية ففي كل يوم تشهد عمليات ضد قواتها وقطعان مستوطنينها
بعض خبراء التسليح الإسرائيليون وفي حجة واهية أخرى يقولون ان القضية الأكثر أهمية في عدم إرسال القبة الحديدية إلى أوكرانيا تكمن في سرية هذا النظام الدفاعي حيث تعتمد القبة الحديدية على تقنية عالية التصنيف ورائدة على مستوى العالم وحمايتها ضرورية لضمان استمرار قدرتها على العمل بتفوق ونجاح وان نقل النظام والتكنولوجيا إلى دولة أجنبية فيه مخاطرة تعرض إسرائيل للخطر وخير شاهد على ذلك ما حدث مع الطائرات الأمريكية بدون طيار التي تحطمت في العراق وسحبتها إيران وتمكنت من خلالها على تحقيق القدرة في بناء طائرات دون طيار متقدمة وفي هذا الشأن قال نتنياهو في وقت سابق إن الأسلحة التي قدمتها إسرائيل لحكومات أجنبية في الماضي سيتم توفيرها لإيران في ساحة المعركة ضدنا
الرأي الأقرب الى الواقع والمرجح حيال تعاطي نتنياهو مع الازمة الأوكرانية هو أن يهتم بمصالح إسرائيل الأمنية أولا سيما مع وجود مؤشرات تدل على قرب نهاية الصراع في أوكرانيا بالمفاوضات السلمية ومن المحتمل أن يكون ادعاء نتنياهو بعزمه على مساعدة كييف هو مجرد كسب لرأي أحزاب اليمين المتطرف حتى يتمكن من تشكيل الحكومة بأريحية ضمن المهلة القانونية ويكون الامر للاستخدام الداخلي فقط وفي النهاية من المؤكد انه وفوق كل التصورات والتطورات ستواصل تل ابيب اللعب علی جميع الحبال في الصراع بين روسيا والغرب حول القضية الأوكرانية
mahdimubarak@gmail.com