يبدأ صاحبنا يومه بإجراءات الهيبة المعتادة؛ يلبس أفضل الثياب، تلك التي تختلف عن ثياب باقي الناس، وينطلق بين الخلق نافخاً شدقيه، حاداً بنظراته، محمر الوجنتين، قاطب الحاجبين، قليل الكلام كثير الصمت، مبروم الشوارب، تعلوه كشرة، وتحيطه وهرة، لا يلتفت بكتفيه اذا خاطبه احد، بل يرمقه بنصف كلمة مع ربع نظرة بطرف عينيه، رافعا راسه، مصعرا خده، معتدا بمشيته، وحوله حاشيته البلهاء، تمهد له الطريق للمزيد من الهيبة، ويزداد تأثير الطاقة المنبعثة من هذه الخزعبلات المهابة اذا كان ذا مال او جاه او منصب، ليكثر خوف الناس منه، او حذرهم، او طمعهم بقليل من افضاله. كل هذا اسمه وهم وشرك اصغر.
لا اله الا الله، ولا معبود بحق سواه، قابلت في حياتي عددا مثل هذه الشخصيات الكرتونية المحنطة، لأجد بعد عدة جمل من النقاش معه ان هيبته مكسورة مجروحة هشة، لأنها مكتسبة مزيفة، هي تماما كمساحيق تجميل المرأة الشمطاء، سرعان ما تظهر قماءة وجهها بعد زوال تلك الاقنعة، مجرد حماقة تنطلي على البسطاء من الناس فقط، لا توجد مثلها في الغرب، ولا كانت عند العرب المسلمين صدر الاسلام، فهيبة اولئك اتت من غير طريق، اتت من الداخل لا من الخارج، يستأنس بها مستشعرها ولا يشمأز منها او يخاف، عطرها بدماثتها، طيبة لا خبيثة، اعطيت بدون طلب ولا جلب، ووهبت بلا سعي ولا صخب.
مقصد القول؛ الهيبة الحقيقية هي تلك التي تنبع من الداخل بلا انقطاع ولا تغيير مظهر او تصرف، فهيبة العلماء تكمن بعلمهم المستدام، وهيبة عباد الله ووقارهم تكمن بعبادتهم وخشيتهم من الله آناء الليل وأطراف النهار، تراها بفراسة العارف في لمعان نظرات العيون، وسماحة تعلو الوجنات، وابتسامة على ثغور الشفاه حتى لو لم يكن صاجبها يبتسم، وهيبة المخلصين تكمن في صدق افعالهم وتطابقها مع اقوالهم، وهيبة المحسنيين بإخفاء خبيئاتهم، لخوفهم من الله وحرصهم على عدم الرياء، وهيبة اي انسان عادي تصدر من داخله بشخصه المتواضع وكلامه الطيب وحسن اخلاقه، وهيبة المدرس بحسن تدريسه وصبره على طلابه، والمهندس باتقان تصميماته وحسن تنفيذها، والطبيب بانسانيته وراحة مريضه، والمحامي والقاضي بعدلهما السخي، فلكل هيبته التي يهبها الله له، اذا صدق واخلص واتقن واتقى. هيبة أصلية الصنع لا تغيرها الايام ولا المكان. هيبة الهوية الشخصية، بكل احوالها، مبتسما كان ام حزينا، ضاحكا او باكيا، متكلما او صامتا، لا تحكمها تصنعات الدهر المزيفة، ولا طلاء اقنعة المال والجاه والمناصب الزائلة.
خلاصة القول؛ الهيبة تمنح ولا تستجلب، تدوم ولا تزول بزوال سببها رغم كل الظروف، ما دامت روحها الداخلية تستمد القوة والكرامة والتكريم من الله سبحانه وتعالى وحده. اما ما نراه اليوم من هيبات الرويبضة، فهو مجرد هراء تعاظم باطلا في نفوس البسطاء الواهمة. فليصمت الوهم وليتكلم العقل، وليغرد القلب بلا اله الا الله وانا له واليه راجعون، راجعون بلا هيبة ولا حتى اسماء، وكفى بهادم اللذات واعظا، وبتراب اللحد على الخدود المصعرة جاثماً.
مقالات - عندما تصمت الاوهام.
الدكتور المهندس أحمد الحسبان