زاد الاردن الاخباري -
محمد قنديل صوت لا خلاف عليه؛ قد تجد كثيراً من الناس لا يعرفونه ولم يستمعوا يوماً إلى أغنياته، لكن من الصعب أن تجد أحداً يعرفه ولا يحب صوته، هذا الصوت الأقرب إلى الكمال في جماله.
كان يستحق محمد قنديل مكانةً أكبر، وأن نستمع إليه أكثر ونقدّر إمكانات صوته ورقّته، بشكلٍ يليق بتلك الموهبة التي لا يجود الزمان بها علينا إلا قليلاً. انطلاقاً من هنا، تعالوا نتعرّف على لمحاتٍ من حياة تلك الشخصية الاستثنائية.
وُلد قنديل محمد حسن عام 1929 في القاهرة، وقنديل هو اسمه الحقيقي قبل أن يصبح لاحقاً محمد، بناءً على اقتراح الموسيقار علي فراج.
نشأ في أسرةٍ فنية أصيلة؛ فجدّته هي "السيدة السويسية"، وكل العائلة تغني: والده، وعمّه، وزوج عمته، ووالدته، ويُقال إن شقيقه كان يغني أيضاً. ووسط كل هذا الاهتمام بالموسيقى، بدأ قنديل يدرك حبّه للغناء منذ الطفولة.
بناءً على توصيات وإصرار والدته، التحق قنديل بـ"معهد الموسيقى العربية"، حيث استمع إليه محمد عبد الوهاب وأُعجب بصوته؛ وكذلك فعلت أم كلثوم، التي شارك بالغناء معها ضمن الكورال في أغنية "القطن فتّح" من فيلم "عايدة" عام 1942.
هذه التجربة وغيرها، إضافةً إلى دراسة الموسيقى، والتمتع بموهبة صوتية متفردة؛ كل ذلك جعله قادراً على إتقان الغناء واختيار الألحان، واقتحام عالم التلحين أيضاً من خلال مجموعة أغنيات، أشهرها "أبو سمرة السكرة". مع الإشارة إلى أنه لم يلحن لغيره من مطربي عصره، إلا لصديقته المقرّبة شريفة فاضل.
في منتصف أربعينيات القرن الماضي، دخل محمد قنديل عالم الغناء من باب الملاهي الليلية، مثل "مسرح المنوعات" لصاحبته حكمت فهمي في الـ"كيت كات"، قبل أن يدخل الإذاعة من خلال أغنية "تمر حنة" (1946) من ألحان علي فراج.
في تلك الفترة، اكتشف قنديل شغف موظف الإذاعة (كمال الطويل) بالموسيقى والتلحين. فتعاون معه، وكانت حنجرة قنديل الوسيلة لتحقيق غاية "الطويل"، واعتماده كملحنٍ في الإذاعة، ثم شهرته.
قدّما معاً أغنيتَي "بين شطّين وميّة" و"يا رايحين الغورية"؛ تلك الأغنية التي أشعلت الخلاف بين قنديل و"الطويل"، بعدما أعطاها الأخير لعبد الحليم، فسجّلها بصوته بعد أن غناها قنديل.
وعن تلك الازمة، يقول محمد قنديل في حوارٍ له مع "مجلة الكواكب" عام 1958: "صوتي خلق كمال الطويل بعد أن غنيت له يا رايحين الغورية. نجحت الأغنية وشاءت شركة كايروفون أن تسجلها على أسطوانتها، فعرضت عليّ مبلغ 50 جنيهاً، لكني رفضت وتمسّكت برفضي".
وتابع قنديل: "ما كان من كمال الطويل إلا أن ذهب إلى الشركة وعرض عليهم تسجيل اللحن بصوت عبد الحليم حافظ وبالأجر المعروض، فوافقت الشركة على ذلك، وسجل عبد الحليم الأغنية بصوته. فذهبتُ إلى الشركة وعرضت عليها تسجيل الأسطوانة مجاناً، ورحبت الشركة بذلك، خصوصاً أن الأسطوانة التي سُجّلت بصوت عبد الحليم لم تجد رواجاً في السوق".
سجّل قنديل الأغنية بصوته وطُبعت الأسطوانة مراراً، وبعد ذلك بدأ كمال الطويل يتحاشى مقابلة المطرب المصري ثم بدأ يهاجمه. ولعلّ هذا الخلاف كان السبب الرئيسي لعدم تقديم قنديل أغنية "على قد الشوق" بصوته، وذهابها إلى حليم بدلاً من ذلك.
في الفترة نفسها، كان قنديل وقع عقداً جديداً مع ملهى "كيت كات"، الذي كانت تمتلكه الراقصة رجاء توفيق؛ التي نشأت بينها وبينه قصة، تكللت بالزواج عام 1950، بعد أن اشترط قنديل عليها أن تترك العمل وتعتزل نهائياً.
وتحكي رجاء في الحوار السابق نفسه عن الموال الذي كان يغنيه محمد قنديل في الملهى، عندما تكون غاضبة منه، في محاولةٍ منه لمصالحتها. وتقول كلماته: "أحبكم، تكرهوني.. وإيش جرى مني لا ذنب سويت.. ولا عيبة جرت مني".
استمرّ الزواج بين قنديل ورجاء توفيق عشر سنوات، حتى حدث الانفصال في العام 1960.
بقيَ للإذاعة دورها المهم في مسيرة قنديل، لا سيما مع انطلاق ثورة يوليو/تموز 1952؛ فكان من أوائل الأصوات التي غنّت للثورة، من خلال أغنية "الراية المصرية" بعد شهرٍ من بدايتها، ثم أغنية "على الدوار".
عُرف قنديل عموماً بأنه أسرع الفنانين تقديماً للأغنيات الوطنية، مع كل مناسبة وطنية. فقد قدّم "يا ويل عدو الدار" خلال العدوان الثلاثي، و"وحدة ما يغلبها غلاب" خلال الوحدة المصرية السورية 1958، كما قدّم "أخوانا في الجزائر" خلال الثورة الجزائرية.
وبعيداً عن الأغنيات الوطنية والأحداث، كان قنديل صوتاً مهماً وحاضراً في الأعمال الإذاعية. شارك في العديد من البرامج والأوبريتات الغنائية في الإذاعة، مثل "سوق بلدنا"، و"فول مدمس" و"الصديق"، و"بنت السلطان".
قدّم ما يقارب الـ50 عملاً إذاعياً، إلى جانب تترات خاصة بالمسلسلات الإذاعية أيضاً؛ كان ذلك نابعاً من اهتمام قنديل بفكرة وقيمة الأغنية، وقدرتها على تقديم شرحٍ ونقدٍ اجتماعي وسياسي، وبأنها قادرة على إيصال أي رسالة بسرعة إلى الناس.
تعاون قنديل مع جميع الشعراء والملحنين الكبار في تلك المرحلة، وكان قادراً على تقديم أي شكلٍ غنائي؛ من الشعبي والعاطفي والتراثي، مروراً بالموال طبعاً، ووصولاً إلى الفصحى، مثل قصيدة "غنى الورى واحتفى" في ذكرى المولد النبوي (ألحان عبد العظيم عبد الحق).
لكن المفارقة أنه لم يغنِّ أي لحنٍ لموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، رغم حب عبد الوهاب لصوت قنديل، وإصراره على أن يغني في الحفلات والجلسات الخاصة التي كان يقيمها عبد الوهاب في منزله.
لكن بعض التصريحات الصحفية التي أدلى بها قنديل كانت سبباً في هذه الفجوة، وحرمتنا من الاستماع إلى أغنيةٍ تجمعهما معاً.
وفي هذا الإطار، يقول محمد قنديل عن عبد الوهاب: "عبد الوهاب يعترف بي ويخاف مني. هو فنان كبير ولكن لنفسه فقط، إنه أناني لا يطلب المجد إلا لنفسه، ولنفسه فقط. وصدقوني في ذلك، يخاف على عرشه ويخشى حتى من أعماله الكبيرة التي يقدّمها لغيره، فسرعان ما يختطفها ويترك الغير يترنح ويهوي، ويبقى هو يشاهد المأساة في ابتسامة ماكرة".
لكن بعد سنواتٍ طويلة، وفي حوارٍ مع مجلة "روز اليوسف" عام 2002، تحدث قنديل عن علاقته بعبد الوهاب وسبب الخلاف بينهما، قائلاً: "عبد الوهاب لم يلحن لي مع أنني تمنيت ذلك طوال حياتي. أعرف أني كنت مطربه المفضل، في بيته على وجه التحديد، ويقول لي الله يا قنديل صوتك حلو. ومع ذلك لم يلحن لي".
وتابع مؤكداً: "وراء ذلك سرٌّ، سأحكيه بالتفصيل للمرة الأولى. في إحدى المرات جاءني صحفي لإجراء حوارٍ فني، فسألني عن رأيي في عبد الوهاب. قلت له إنه أستاذ ومعلم، ورغم أنه درس في معهد الموسيقى العربية، فإنه معجب بالموسيقى الغربية".
وأضاف قنديل: "قلتُ في الحوار إني لستُ أدري لماذا يقتبس عبد الوهاب من هذه الموسيقى، مع أنه مليء بالموسيقى الشرقية. إلى هنا انتهى كلامي عن عبد الوهاب، لكني فوجئتُ بصدور الجورنال مع عنوان (عبد الوهاب حرامي موسيقى)!".
من الواضح أن محمد قنديل كان جريئاً في آرائه، وواثقاً بقدراته الفنية ومتحكماً بها، غير مكترث بكل الخطط الإعلامية ولعبة النجاح والقمة. فقد تعامل مع الغناء كوظيفةٍ لها دور مهم، لذلك كان غزيراً في الإنتاج وقدّم أشكالاً مختلفة من الموسيقى، حتى إنه غنى الـ"فرانكو أراب" في أغنية Goodbye my dear (ألحان أحمد صدقي وكلمات زهير صبري).
تدهورت صحة محمد قنديل في سنواته الأخيرة، وتكفلت الدولة المصرية بنفقة علاجه في عهد الرئيس حسني مبارك. وفي يوم 9 يونيو/حزيران 2004، رحل محمد قنديل تاركاً تاريخاً طويلاً وممتعاً من الأغنيات، التي جعلته واحداً من أجمل الأصوات التي جادت بها مصر علينا.