حسن محمد الزبن - الزيارة تحمل في طياتها رسائل عديدة، ولو أراد الملك أن يُقدم توجيهاته لرئيس الحكومة منفردا لتعميمها على طاقمه الوزاري، لما توجه الملك إلى رئاسة الوزراء للقاء المجلس الوزاري كاملا وعن قرب، فالموضوع ليس تفويضا جديدا للحكومة كما يرى بعض المراقبين والخبراء بالشأن الأردني؛ فرئيس الحكومة لديه الصلاحيات المنوطة به، وداعمة له في إدارة الولاية العامة ضمن إطار القانون والصلاحيات الدستورية، لكن موضوع الإصلاح والتحديث السياسي والاقتصادي وما تبعه من منظومة التحديث المعروفة، بدأت وانطلقت من أروقة الديوان الملكي العامر، وورشات العمل الاقتصادي كان هو الحاضن الرئيسي لها، مع شراكة بالتفاصيل وإشراف للحكومة بطواقمها المتخصصة التي كانت جنبا إلى جنب مع الطواقم الاقتصادية في القطاع الخاص، لكن الملك ترفع له التقارير تباعا، ويعرف كل شاردة وواردة، وكل صغيرة وكبيرة، ولديه نقاط كان لا بدّ من طرحها، ليؤكد ما أكده أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة أنه لا رجعة عن التحديث السياسي والاقتصادي، للمضي في مرحلة جديدة من المئوية الثانية للدولة الأردنية، للانطلاق نحو الأردن الجديد، والملك رأى ويرى دائما أن التوجيه ومتابعة الأمر يبدو حثيثا في مرحلة لا يمكن فيها التوقف عن مشروع الإصلاح، ولا مجال للعودة للخلف، وتقويض الجهود التي بُذلت، أو محاولة إجهاضها، بعد ما أنجز، وما تم بناؤه من حاضنة قانونية ومنظومة تشريعات تم التوافق عليها أخيرا من كل المؤسسات الدستورية، وأصبحت نافذة.
فالملك لا يخشى على الأردن من أي ظروف إقليمية قد تستهدفه، بقدر إصراره على تحصينه من أي تبعات مستقبلا تفرض عليه المواجهة والاشتباك معها بندية واقتدار ومزيد من المنعة نحو تحقيق مستقبل أقوى وآمن.
ويبدو أن في الأفق قرارات صعبة يجب على الحكومة اتخاذها لتتواكب مع منظومة التحديث والإصلاح، وتحتاج إلى المباشرة، وعدم التردد في الشروع بتطبيقها على أرض الواقع للوصول إلى الانتعاش الاقتصادي وتعافيه بطريقة ملحة أكثر من أي وقت مضى.
ورسائل الملك ليس لحكومة الخصاونة فقط، ولكن لما بعدها من حكومات عابرة، لتجذير فكرة حكومات المساءلة التي تخضع للرقابة وتقييم الأداء، وأنه لا أحد فوق القانون، وضرورة تقريب الفجوة بين الشارع والحكومات الآن ومستقبلا بما يصب في مصلحة الأردن ومنعته، وتقديم كل الأدوات التي تخدم المواطن، وتجعله قادرا على التفاعل والمشاركة في القرار من خلال مجالس المحافظات، والمجالس البلدية والمحلية، ومؤسسات المجتمع المدني، والأحزاب السياسية، ومجلس النواب.
وعليه فالحكومة معنية بتنفيذ التحديث السياسي والاقتصادي والإداري والاجتماعي، ولا يوجد مبرر لها بالتأجيل، أو التحجج بمطبات أو عوائق تعترضها، في ظل قوانين جديدة ومعدلة وأصبحت نافذة دستوريا، وجاءت أصلا للمضي بمرحلة جديدة من عمر الدولة الأردنية، وعليها أن تبدأ، ومطلوب منها بوادر ثقة، وأظن أنه مضى الوقت الكافي لقراءة مئات الصفحات التي أعدت لمسيرة الإصلاح، ما يعني أنها تحفظ درسها جيدا، ومهيأة لخوض الامتحان بالتطبيق الفعلي كيف تنجز، وتتجاوز محاور ومحطات إلى أخرى أكثر أهمية وواقعية بعمل متقن يتجاوز العثرات والأخطاء، ليشعر المواطن بعد صبر طويل أن الوضع قد تغير للأفضل، وأن هناك تناغما بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، والموضوع ليس افتعال مناكفات أو استعراض مواقف، وأن الحاجة تقتضي أن يكون هناك نضوج سياسي في الرؤية يضيء المناطق المعتمة من الجانب الذي ينظر إليه المواطن، ليكون فرصة لمراجعة النهج السياسي في الدولة إلى رغبة أكيدة بالمضي في طريق اليقين عبر مسارب عريضة، أولهم المسرب السياسي وثانيهما المسرب الاقتصادي وثالثهما المسرب الإداري، وآخرهم المسرب الاجتماعي.
وعلى الحكومة أن لا تنزعج كثيرا من النقد، لأنه من أهم بوادر تخفيف النقد وحدته، يقع عليها بعمل مراجعة سريعة لأدائها، وتكون جاهزة لإدارة الأزمات متى حدثت، وتقديم مبررات للأخطاء بكل شفافية عبر منبرها الإعلامي الرسمي، لتؤكد أنها غير بعيدة عن الشارع، وأنها في قلبه، لكن إن بقيت على نهج التجاهل وتؤثر البُعد فإنها تضع نفسها في مأزق وصورة محرجه، إذ لم يكن لديها مصوغات حقيقية للتبرير، ما يعني تراجعها شعبيا، وتسجيل مواقف عليها وهي بغنى عن ذلك.
ولأجل أن تدار الولاية العامة بالمأمول والفكر السياسي الذي يناسب النضوج في المطالب والطموحات يجب صناعة السياسات العامة الحصيفة التي تتقدم على صناعة القرار السياسي، لأنه إذا كان القرار السياسي لا يحتكم إلى محددات ومقدمات واستراتيجيات؛ فبالتأكيد سيكون قرار ليس وازنا، وقرارا غير عقلاني، وسيجد تفاوت في تفهمه والاستجابة له.
وإذا كان النقد يصيب الحكومة، فإنه بالتأكيد يطال مجلس النواب الذي يفترض أن تكون وظيفته إلى الجانب التشريعي، الرقابة والمحاسبة على أي تقصير أو خلل في أداء الحكومة، ولا يعني هذا أنه لا يوجد تناغما أو انسجاما في العلاقة بين الحكومة ومجلس النواب أبدا، بل يؤكد أن هناك خللا في رؤية التنفيذية والتشريعية، وأنا أفهم أن العلاقة بين الحكومة والنواب يجب أن تكون علاقة بعيدة عن تمرير مصالح أو مطالب أو تنفيع وخدمات، وهو الجو الأكثر نقاء، ويحافظ على هيبة الطرفين، والتعامل ضمن الرؤية التي تخدم الأردن، وإن بقي المجلس والحكومة في هذه الدائرة، دائرة تغول المصالح الشخصية على حساب المصالح العليا للدولة، فإننا سنبقى ننتظر في محطة الاستراحة لتحديث المنظومة السياسية، وكأنك يا أبا زيد ما غريت.
يجب على الحكومة أن تضع الشارع بجدوى وجودها، والثقة التي منحت لها كفرصة التعديل لخمس مرات من عمرها، وأن تقدم كل التسهيلات والحوافز للقطاع الخاص كشريك حقيقي في بناء الدولة، والتقيد بما تم رسمه من خطط لتنفيذها حسب خارطة الطريق العابرة للحكومات، وعليها اتخاذ القرارات الداعمة لهذا التوجه، فما عاد التأجيل في مصلحة الوطن، وعليها أن تنجز ما لديها من خطط وبرامج تخدم التنمية المستدامة الشاملة التي إن تحققت سنشهد تغيرا ملحوظا في انخفاض مؤشرات البطالة، وانحسار في نسب التضخم، وارتفاع الثقة لدى المواطنين، واستعادة العلاقة الطبيعية التي كانت سائدة سابقا مع الحكومة والدولة ومؤسساتها عندما كان المستوى المعيشي يتوافق مع الدخل الذي يتقاضاه المواطن.
الحكومة عليها خدمة هذا المواطن وتلبية طموحاته في حياة كريمة، وتضمن له الحقوق المنصوص عليها في قوانين الدولة فيما يخص منظومة الأمن الاجتماعي وما يرتبط بها مع منظومات التعليم والصحة والعمل وتحقيق قدر أعلى من الإيجابية في حياته، ونؤكد يجب أن ترتقي وتستوعب ثقافة النقد، ويجب أن يترجل المسؤول المرتجف إن لم يكن بإرادته وإخلاء موقعه بالاستقالة، فإن الأولى برئيس الحكومة إقالته.
نريد أن تكون الأبواب مفتوحة للمواطن ليجد من ينصفه، فالأبواب ليست محصورة لزيد وعبيد، أما أن يكون المسؤول على قول فرعون "أنا ربكم الأعلى "ويقول للمواطن إذا ما بتعرف طريقك للرئيس أو الوزير أنا أدلك عليه؛ فهذا قمة الاستخفاف بحقوق الإنسان كمواطن يريد أن يقدم مظلمة أو شكوى أو اعتراضا على أمر يعانيه.
كما إنه على الحكومة أن تتحرك وتأخذ القرار لرفعة الأردن، لأنها معنية بخارطة طريق صارت واضحة تسهل مهمتها، ولكن يبدو أنها لا تتحرك إلا إذا تدخل الملك وأبدى توجيهاته كل فترة وأخرى، كما حدث في زيارته الأخيرة لمجلس الوزراء، مع أن كتاب التكيف السامي فيه الكفاية من رؤية الملك، لكن- سبحان الله- الحكومة لا تستنفر طواقمها إلا بعد كل زيارة أو تدخل ملكي، وتدخل الملك لا يأتي عفويا، بل مقصودا، وبناء على رسائل وتقارير تصله بدقة عن التباطىء والترهل الذي تعانيه الحكومة وأذرعها، وهذا ما يستدعي الملك التدخل لدفع عجلة التحديث والإصلاح إلى الأمام بزمن قياسي.
حتى تجربة الحكومة الإلكترونية عاجزة عن تلبية الخدمة التي يستحقها المواطن، فهي لا تلبي كل حاجاته التي تغنيه عن الوصول إلى أي مؤسسة حكومية، مع أن نجاح هذه التجربة يعني تخفيف الضغط في المراجعات داخل أروقة الوزارات والدوائر والمؤسسات في الدولة، وطريق للقضاء على الواسطة والمحسوبية من خلال الأداء المؤسسي الإلكتروني الضامن للمساواة والعدالة دون تدخل للعواطف وعلاقات المحاسيب في أي معاملة رسمية أو حكومية.
فالتحديث مطلب دولة لا رجعة عنه، ويجب أن تتوافق السلطة التنفيذية والتشريعية لتحقيق ذلك، ووضع المصالح الشخصية، والآفاق الضيقة جانبا، للوصول لحالة من الوعي للمصالح العليا للدولة، نريد حكومة تخضع للقياس والتقييم والنقد والمساءلة، وإذا أخفقت أو فشلت في تحقيق ما هو ما بين يديها من رؤى التكليف وخارطة الطريق العابرة للحكومات فإن إقالتها أنجع من أي تعديلات تجرى عليها، أو أن تستبق الإقالة وتقدم استقالتها لتتيح لفريق آخر تسلم إدارة الدولة.
وحمى الله الأردن،