الأستاذ الدكتور رشيد عبّاس - الكشرة موروث اجتماعي تناقلته الأجيال على مر السنين وباتت ثقافة لها طابعها الخاص وقد تميزنا بها عن غيرنا من الأمم, حتى أننا مررنا بمرحلة مفادها أن الضحك قد يصل إلى حد العيب.. واقتربنا من أن الابتسامة مشبوهة إلى حد ما, والمطالبة بإخفائها لمن استطاع إلى ذلك سبيلا.
الغريب أننا نتقن فن ومهارات التجهّم (الكشرة) طيلة حياتنا, ونحاول أن نصدّر للعالم الخارجي فكرة (برمْ) البوز, حتى في المواقف التي تحتاج إلى فرد الوجه وانبساطه فإننا قادرون على إنتاج (الضحكة) الصفراء كبديل للابتسامة النقية, وأكثر من ذلك فقد آيسنا وضحّينا طواعية بالصدقة التي نتحصّل عليها بالتبسّم في وجه الآخرين.
كثير منا قد قرأ سورة (النّمل) وربما حفظها عن غيب, لكن للأسف الشديد لم نتدبّر الدراما الجميلة التي وقعت بين النّملة وسيدنا سليمان عليه السلام والتي جعلت من وسيدنا سليمان عليه السلام أن يتبسّم ضاحكا من قولها, فهو تحصّل على أكثر من صدقة حين تبسّم وضحك لها, لم نتدبّر على الإطلاق أن القلب يضخ أكبر كمية من الدم النقيّ لباقي أنحاء الجسم إذا ما لحق عملية التبسّم بعملية الضحك العريض وليس العكس.
كثير من الصدامات والنزاعات كان سببها أن شاب تبسّم في وجه فتاة أثناء مرورهما من أمام بعض دون أن يعرفها, أو أن شاب تبسّم في وجه شاب آخر أثناء مرورهما من أمام بعض دون أن يعرفه.. أنها ثقافة (عاقد الـحاجبين على الجبين اللّجين) التي تطاردنا في كل مكان وزمان.
لقد تم رصد كثير من الحالات في الغرب كيف أن الشباب يتبسموا في وجوه الفتيات (أو العكس) أثناء مرورهما من أمام بعض دون أن يعرفوا بعض, وكيف أن الشباب يتبسموا في وجوه الشباب أثناء مرورهما من أمام بعض دون أن يعرفوا بعض.. أنها ثقافة (منبسط الـحاجبين على الجبين اللّجين) يمارسونها في كل مكان وزمان.
لنا أن نتصور أن سيدنا سليمان عليه السلام تبسّم ضاحكا لنّملة, لكن للأسف الشديد لم نتدبّر على الإطلاق قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم), علينا أن نتعلم من الآخرين كيف نبتسم وكيف نضحك في وجوه الآخرين, وكيف نخرج من بواكير ومخابئ الضحكة الصفراء القاتلة.
في الشوارع وفي الأسواق وفي المحال التجارية حتى في (المساجد) وفي الغرف الصفية وقاعات المحاضرات والمجالس الاجتماعية ثقافتنا الخاطئة تدعونا إلى انه ينبغي علينا أن نبقى عابسين متجهّمين, ويبدوا أننا فهمنا أن (الكشرة) للذكور رجولة وهيبة.., وللإناث حشمة ووقار.., ووصلنا في يوم من الأيام إلى حد إخراج أطفالنا من المجالس إذا ما بدأت عليهم ملامح الابتسامة البريئة.
وأكثر من ذلك فقد وصل الحد إلى أن احدهم قال لي يوماً من الأيام حين سألته لماذا فلان (مكشّر) باستمرار فقال لي لأنه متديّن كما يدعي.. فخرج مني وقتها فتوى سريعة مجتهداً فيها وأنا لستُ مفتياً.. قلتُ له: عليه أن يُخرج هذا المكشّر كفّارة أو أن يصوم ثلاثة أيام متتالية, لعل وعسى أن تنفرج تكشيرته.
وأكثر من ذلك أصبحنا نخجل من الابتسامة كقيمة رفيعة, ومارسنا الابتسامة والضحكة على مواقع التواصل الاجتماعي ونحن ربما نكون غاضبين عابسين بحرف الهاء المتكرر(هههههههه), وخسرنا بذلك حركة سبع عضلات مفيدة جداً للوجه بالابتسامة الحقيقية في ذلك.
والمفارقة الغريبة أن بعض أطباء الولادة قد أفاد مؤخراً أن نسبة الأطفال الذين يولدوا عابسين تجاوزت الــ 90% دون أن يصطدموا ويواجهوا تعقيدات الحياة بعد.. ويمكن أن يُفسّر ذلك بأنهم كانوا لحظة الولادة في حالة تدريب على الرجولة و(الهيبة) التي نطمح جميعاً الوصول اليها لاحقاً! ويبقى السؤال الأهم: هل الكشرة.. موروث اجتماعي, أم ضيق الحالة الاقتصادية؟ آخذين بعين الاعتبار أن معظم الأغنياء ومَيْسورو الحال يظهروا عابسين أيضاً.
علينا أن نعلّم أطفالنا الابتسامة والضحك بحدود الأدب, وأن لا نعلمهم أن (الكشرة) للذكور فرض عين.., وللإناث فرض كفاية.., قال تعالى: (وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) صدق الله العظيم.
وبعد, انا لا أدعو على الاطلاق أن نبقى كرجال ونساء وكشباب وفتيات وكأطفال في حالة ابتسامة وضحك مستمرتين.. انا أدعو إلى الابتسامة والضحك بحدود الأدب والاخلاق الطيبة لجميع الأطراف, وأدعو إلى الغاء (الكشرة) والتجهّم من حياتنا اليومية, والانسحاب التدريجي من الضحكة الصفراء المميتة والتي تصاحب أحياناً الكشرة والتجهّم.
دمتم بألف خير.