عندما كنا صغاراً، كانت هناك ثمة رحلات مدرسية، تنظمها إدارة المدرسة لجرش أو الاغوار أو البحر الميت او ام قيس أو طبقة فحل أو غيرها، وكنا نتجهز ليلتها بحقيبة زاد وتسالي، وفي يوم الرحلة نتوجه للمدرسة فرحين بلا كتب ولا دفاتر، وحاملين قصاصة ورقة موقعة من ولي الامر - والدنا رحمه الله - يتعهد فيها ان ما قد يحدث لنا بالرحلة المدرسية من سوء هو من قضاء الله وقدره، بالاضافة لدينارين اجرة لسائق الباص ومثلها مصروف لتلك الرحلة. وما ان ينطلق بنا الباص، حتى تنطلق معه الضحكات والاغاني، وتنقضي سحابة نهار ذاك الربيع بكل فرح وسرور.
وثم تبدأ رحلة العودة التي غالبا ما يعتريها التعب والارهاق مع قليلا من الحزن والكآبة لانقضاء لحظات المتعة بسرعه، والعودة للدراسة وللدروس في اليوم التالي.
وفي طريق العودة؛ يتوقف الباص عند بعض المحطات لانزال بعض الطلاب لاماكن سكناهم القريبة، نودعهم بابتسامات تعلوها حزن الفراق، ثم نعود للضحك واللهو عندما يستمر الباص باكمال المسير للوجهة الأخيرة - بوابة المدرسة - حيث انطلقنا، وننسى من قد نزل، وربما من قد بقي، المهم اننا نجيد استخدام كل لحظة فرح - بغض النظر مع من تكون.
ما أشبه هذه الرحلة بمشوار العمر، وما أشد لحظات الحزن لفراق من نزلوا على الطريق، وما أسرع ما ننساهم بعد ان تغيبنا وتغيبهم مراكب الدنيا المتسارعه، ذات المسير الذي لا ينتظر احدا الا لهنيهات قليلة عند شفير القبور للوداع الاخير، نبدأ دنيانا بفرح واقبال على ملذاتها، وننتهي بحزن واكتئاب لقرب الرحيل، ونناظر الاحبة يغادرون تباعا - واحد تلو الآخر - بكل حرقة وأسف، ولا أحد يعلم من سيكون صاحب الدور القادم.
تلك هي الدنيا، متاع قليل، ثم سكون طويل يعقبه حساب بعقاب او ثواب، (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (20) الحديد. كل المؤشرات والرحلات والمتشابهات تقول بملء ما فيها : انك ميت وانهم ميتون.
اعجب من نفسي احيانا انني انسى ان اتعظ، واتمنى انني لم اذهب تلك الرحلات مرارا وتكرارا، لكني كنت اعود واكررها واعاقر ما فيها من - سعادة / وتعب / واكتئاب مرات ومرات، بدايات محبه تؤول لنهايات الوله - كما غردها محمد عبده.
خلاصة الذكريات؛ باص رحلة الحياة مستمر بالمسير، الكل فيه فرح مسرور، ولا يأبهون بمن بقي او غادر، فليستمتع راكبه طالما طال به الطريق، فالنهايات محتومة، سننزل جميعا من حيث انطلقنا - من التراب والى التراب.
الدكتور المهندس أحمد الحسبان