زاد الاردن الاخباري -
تعبق الذاكرة الموسيقية والفنية العربية بصوت عراقي شجي له بصمته وميزته الخاصة، وبذائقة نوعية هي صوت الفنان العراقي سعدون جابر، الذي تبقى أغانيه عالقة في الذهن، فمَن ينسى "عشرين عام"، و"صغيرون"، و"يا أمي"، و"جتني الصبح"، وغيرها من الأعمال الخالدة.
وفي حوار ، يسرد سعدون جابر، قصصا مشوقة تكللها رحلة نجاح مفعمة بحب الفن والناس والأداء اللافت، ورأيه في واقع الأغنية العربية والعراقية، حيث يقول إن "الأغاني الراكزة ستبقى في الوجدان"، وإن "الغناء التراثي هو الأكثر صدقاً والأقرب للناس من غناء هذه الأيام"، بحسب تعبيره.
لماذا ابتعدت عن الغناء في السنوات الأخيرة وأنت "سفير الأغنية العراقية"؟
الحقيقة أنا لم أغنّ من أجل لقب سفير أو وزير أو غير ذلك من الأمور، أنا غنيت لأني أحب الغناء، وهذا كل ما يهمني.. أنا أحب الغناء وغنيت، والناس هي التي أطلقت عليّ هذا اللقب ووضعتني أمام مسؤولية كبيرة.
بطء حركتي في السنوات الأخيرة سببها هو ما يحدث في وطني العراق، وما يحدث في عالمنا العربي من فوضى، لكن مع ذلك مازلت نشطا في مشواري الفني والحياتي.
سعدون جابر: الغناء التراثي أكثر صدقا وقربا للناس من أغاني هذه الأيام
أثارت عودتك الأخيرة جدلاً، ولا سيما في الأغنية المشتركة مع نصرت البدر، ووصفها نقاد بأنها لا تليق بتاريخ سعدون جابر!
"أحلى سنين ذيك السنين إلي راحت ما نعرف وين.. محتارين مرت من صدق أو كنا غلطانين"، أعتقد أن هذه الأغنية بالفعل أثارت جدلا واسعا، ولكنها لو لم تكن بتقديري تحمل شيئا جديدا لما غنيتها ولما اقتربت من فنان..
أعتقد الكثيرون أنه مسيء للفن العراقي بما قدمه، لكنني عكس كل الذين يقولون إن نصرت البدر أساء للغناء العراقي؛ أنا أقول إنه يحمل شيئا جديدا للغناء العراقي، وما هذه الأغاني الجميلة التي نسمعها منه وخاصة "أحلى سنين" إلا دليل أنه يملك شيئا جديدا.
وأنا في حسابي كسعدون جابر وضعته في سلة الملحنين الجيدين أو في سلة الملحنين السبعينيين فواحد منهم هو نصرت بدر، صحيح يأتي بعد أسماء كثير مثل: كوكب حمزة ومحسن فرحان وكاظم فندي وغيرهم، لكنه يحمل نفسا شابا متأثرا بالتراث، رغم أنه في بداية حياته أسمعنا أغنيات فعلاً كانت فيها ركاكة، لكنه تدارك هذا وراح يغني ويلحن نصوصا جيدة، وهو برأيي يسير في الطريق الصحيح.
لحنت قصيدة "ردتك ولو كذاب" لمظفر النواب وأديتها وكأنك تستعيد تاريخاً من الغناء العراقي المعبر في زمن ما يسمى بـ "اختطاف الأغنية العراقية"، كيف تصف التجربة؟
حدثت هذه الأغنية عن طريق المصادفة، حيث كنت قريباً من الشاعر الرقيق رياض النعماني وكان يدندن في بيتي بهذه القصيدة على عود كان يقول: "ردتك لو كذاب ردتك.. ردتك بعمري صم عتاب"..
انتبهت لجملة جميلة لحناً وشعراً، فقلت له لمن هذا الغناء الجميل والشعر الجميل، قال لي إنها لمظفر النواب، فطلبت منه إكمال اللحن، فرد: لم أسمع مظفر إلا بهذه الجملة.. كان يدندن هذه الجملة فقط وبهذا اللحن، فسألته عن بقية اللحن كيف نحصل عليه، قال حينها بإمكاني أن ألحنه فحفزني ذلك على إمساك العود وتلحين بقية القصيدة.
أيضاً أثارت هذه الأغنية جدلاً عند الناس.. بعض الناس وقفوا ضدي، وبعضهم تعجب لإكمال اللحن من قبل سعدون جابر. وبرأيي، هكذا هي الأغاني الجميلة يجب أن تثير اللغط، وقريباً سأصورها تصويراً جميلاً وسأطلقها للناس بنفس وصورة أخرى.
من 95% إلى 98% من أغنياتي وصلت للناس، أما بعضها فكانت إما بتلكؤ مني في عدم تصويرها أو لانشغالي بأعمال أخرى غير الغناء، ما حال بينها وبين الانتشار.
أنت تؤدي التراث العراقي بأسلوب خاص، وذكرت سابقاً أنك قدمته بـ"شكل مستحدث".. كيف؟
أحب كل الغناء التراثي العراقي والعربي لأني أعتقد أنه أكثر صدقاً من الغناء هذه الأيام، فالشاعر والمغني سابقاً كان يغني من أجل حال تخصه آو تخص مجتمعه، لم يكتب أو يغني من أجل أن يكسب، كان يغني لأجل الناس..
والناس وهم كل شي في العملية الإبداعية، إن لم يكتب آو يلحن أو يغني للناس فسيبقى عمله بعيداً عنهم، لكن حين يكتب ويغني لهم يدخل قلوبهم بدون استئذان، وهكذا بقي الغناء التراثي عموماً في العالم العربي هو الأقرب للناس من غناء هذه الأيام.
ربما يطربني مغن بدوي في الصحراء أكثر من مغنين اليوم بالعالم العربي، لأنني أشعر بصدق غريب عند هذا البدوي.. أشعر أنه الأقرب إليّ من أكبر المغنين في العالم.
ركزت على أداء الأغاني الصعبة لحناً وكلمات وجمل موسيقية، هل تعتقد أن أدائك لهذه النوعية من الأغاني سبب عدم انتشار بعضها؟
الغناء المستحدث الذي اخترته أنا ربما قدمته في غير وقته وغير زمانه وكان سبباً في عدم وصوله للأذن العراقية والعربية، ومنها مثلاً أغنيات المرحوم العبقري بليغ حمدي، حيث لحن لي أربع أغنيات وكانت من كلمات الشاعر كريم العراقي الذي أتمنى له الشفاء العاجل هذه الأيام..
اختار بليغ حمدي الأغاني أو الأشعار حينها وذهب عام 1983 إلى القاهرة وسجلها، ودفع من جيبه الخاص أجور التسجيل والاستوديوهات، وجاء إلى لندن حيث كنت أعيش سنة 85 و86، طبعا هو أسمعني الألحان عبر التليفون، ولاحظوا الرصانة التي يحملها أستاذ بليغ: قال لي يجب أن استمع إليها قبل أن تصبح الأغنيات جاهزة،..
وفي سنة 1988، أراد المرحوم منير بشير أن يطرحها للناس في كاسيتات ثم يتبرع بمبالغها للمجهود الحربي العراقي آنذاك، فقلت له هذا الوقت غير ملائم، لأن الحرب على أشدها ولن تجد مستمعين، لكنه أصر أن تطرح وتقدم مبالغها للقيادة العسكرية، وهكذا حظيت تلك الأغاني باهتمام ضئيل، ولهذا السبب تكون بعض الأغنيات حين تقدم في غير وقتها وزمانها لا تحظى باهتمام كاف.
وأستطيع القول إن 95% إلى 98% من أغنياتي وصلت للناس، أما البعض الآخر إما تلكؤ مني في عدم تصويرها أو لانشغالي بأعمال أخرى غير الغناء، وهو ما حال بينها وبين الانتشار، ولهذا السبب لم تحظَ بمشاهدة أو بسماع عال.
المقام العراقي وقد برعت في أدائه، ما قصة نجاحك في هذا الشكل الموسيقي الصعب؟
أعتقد أولا أن النجاح هو قدرة من الله وعطاء منه، فأنا لست مغنياً مقامياً، فأنا ابن بيئة ريفية جنوبية التقطت أذناي أول ما التقطت الغناء الريفي، لكن حين انتقلنا إلى بغداد اشتغلت، ومن عجيب المصادفات في كورس المغني أستاذ محمد القبانجي، المغني المقامي الأول في العراق، فكنت أردد الغناء المقامي خلفه ودخلت أذني روائع الغناء المقامي.
واستطاعت هذه الأذن أن تجمع بين الغناء الريفي والمقامي وغناء المدينة واستمعت إلى الغناء في الصحراء وأعجبت به، فاقتربت في الغناء من خارطة الغناء العراقي كلها، لكن لا أستطيع أن أقول إني غنيت بعمق جميع كل هذه الخارطة، استطعت أن أغني وأبدع فيها لأني أحبها، ولأن الله أعطاني قدرة صوتية وذوقية تعرف ماذا تغني من هذه الخارطة الغنية، حتى أشاد الكثير من النقاد والناس أجمعين وفي مقدمتهم الأستاذ كرم نعمة.
شكراً لله تعالى وللناس الذين شجعوني على الغناء المقامي.
ستبقى الأغنيات الراكزة الكبيرة التي تحمل معان كبيرة في ذاكرة الإنسان العراقي والعربي لأطول مدة ممكنة.
يصف الكثيرون الأغنية العراقية بأغنية "الشجن والحزن".. هل هذا ما يميزها فعلاً؟
الغناء العراقي وُصف بأنه غناء حزين ويحمل شعلة من الحزن والشجن العميق، ولهذا أسباب كثيرة: أولاً أقول إنه فعلاً حزين لكن لا يعني هذا الحزن بأساً عند الناس.. صحيح هو حزين لكن هو حزن شفاف وهو من حرك المجتمع العراقي وخاصة الفلاح العراقي لينهض لتغيير واقعه ويملأ صفحات التاريخ ثورات وانتفاضات، فالحضارة العراقية قامت على الدم وعلى الحزن.
الفلاح العراقي حين كان ينثر بذوره ويسقيها لتنبت حبا ليعيش، في بعض الأحيان يأتي فيضان دجلة والفرات ليذهب تعبه فيروح الفلاح يندب حظه بالغناء فيغني حزنا يحكي حالته التي يعيشها وهكذا عاش الفلاح العراقي تحت سلطة الطبيعة القاسية ممثلة في دجلة والفرات وفي صحراء تحرق ظهره عكس الفلاح المصري الذي غنى فرحا حين يفيض النيل في أوانه..
وهكذا غنى عبد الوهاب في ثلاثينات القرن الماضي" ما أحلاها عيشة الفلاح"، بينما غنى الفلاح العراقي على لسان الفنان حضيري أبو عزيز، المغني الريفي"تتعب وتعبك مش يمك يا فلاح".. يعني تتعب والتعب ليس لك أيها الفلاح البائس، لكنه هذا الفلاح ثار مرات ومرات حتى امتلأت صفحات التاريخ.. الغناء العراقي صحيح حزين لأنه جاء من واقع حزين، فالفلاح غنى حزنا لكن الحزن لم يكن حزنا وهكذا..
كيف تقيّم مسار الأغنية العراقية اليوم؟
الغناء العراقي اليوم أصيب بمرض عمّ الغناء العربي عموماً وما أصاب الإبداع العربي في المسرح والسينما والثقافة والغناء هي نفس الأسباب التي أصابت الغناء العراقي: أعطوني مسرحاً الآن كما كان المسرح العربي قبل خمسين عاماً، أعطوني أغان عربية تقترب من جودة الأغاني العربية القديمة، وهكذا أعطوني في السينما والشعر والأدب.. كل شيء تغير لكن للأسف للأسوأ، وهذه الحالة يجب أن لا تصيب المثقف العربي.
آما في حالة خصوصية الغناء العراقية، فالغريب أنه على هزالة بعض الأغنيات فإنها مازالت مطلوبة والمستمع العربي متلهف لسماعها ويرددها، ولا يزال الكثير من المطربين العرب يغنوها أو يتمنون غناء الأغنية العراقية رغم الهزالة في بعض الأحيان.
وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح، وسوف تبقى الأغنيات الراكزة الكبيرة التي تحمل معان كبيرة في ذاكرة الإنسان العراقي والعربي لأطول مدة ممكنة، وفي اعتقادي فإن الأمة العربية والعراقية التي أعطتنا فطاحل في كل الإبداع لازلت حبلى بأن تعطينا إبداعات أخرى في كل المجالات.. وبرأيي الأرض العربية حبلى بمفاجآت رائعة التي نأمل أن تعم بكل خارطة الإبداع العراقي والعراقي.