بقلم الدكتور المهندس أحمد الحسبان - كنت اعتقد - صغيراً - ان حدود مملكتنا الحبيبة هي فقط حدود قريتنا الجميلة، حمامة العموش، تحدها الجبال العالية من جهاتها الاربعة، وتتخللها الاودية والسفوح الساحرة، شارعها الرئيسي هو ذاك الذي يتلوى بين الجبال، ووجهها الصبوح هو اشجار الزيتون والتين على جنبات الحواكير وفي السفوح، تحفها اشجار السرو والصنوبر في كل حقل، وترقد في ثناياها كروم شجيرات العنب، وتصدح بين عصرها والغروب سيموفونيات نسائم الرياح عندما تداعب اعالي الاشجار في الربيع والصيف، او عندما تسقط اوراق العنب خريفاً بذياك الحفيف المحزن. وكانت اجراس اغنام العم (ع. س) - رحمه الله - تشكل صدح اللحن الاخير قبيل غروب كل شمس، عائدةً من مشوار طويل بين الحقول، تأنُّ من تعب المسير، وتأذنُ ببداية تعليلة أهل القرية الطيبين بين المغرب والعشاء.
كانت التعليلة في احد البيوت، وبلا تنسيق مسبق، سوى اتفاق شفوي بعيد صلاة المغرب امام باب مسجد القرية، فكل البيوت متشابهة الشكل والجوهر، وكل نساء القرية أخوات الرجال وامهات كل الأطفال والابناء، وكل محتويات البيوت موحدة المنشأ، من الحقل قمحهم والخبز، ومن البئر ماؤهم الذي منه عصيرهم (التانج) وشايهم الغزالين الاسود، حتى ان تفاصيل البيوت متشابهة؛ غرفتين و(حوش)، احداهن غرفة ضيوف حيث التعليلة، والاخرى غرفة نوم لكل أفراد الاسرة والابوين، مهما بلغ عددهم، والمطبخ القديم يبعد عنهما بضع خطوات بذات الحوش، وتحف الحوش حاكورة الاشجار الفاصلة بين كل جار وجار، بلا جدران اسمنتية عالية كما هو الحال حاليا، لم نكن نحن الاطفال بحاجة لنتسور صيرها - ان وجدت - وكنا ندخل عليها كلها بلا استئذان، نأكل ما نشاء ونشرب ما نشاء، ولا يعيدنا الى بيوتنا الا غروب الشمس، يتبعه صيحة امٍ رؤوم تنادي ابناءها للعشاء - ومن بعده النوم.
وبعد ان يتم الاتفاق على مكان التعليلة عند من تكون، يأتي الرجال بأضوية اللوكس القديم، الذي يعمل بالبطاريات الجافة قياس A، اذ لم تكن الكهرباء قد وصلت لقريتنا في سبعينيات القرن الماضي، وكل يأخذ مقعده جنبا لجنب مع من قد يجد معه حديثا جانبيا مشتركا اكثر من غيره ذلك اليوم الشاق، وليس مع من يحب او يكره، فالكل يحب بعضهم بعضا، وكلهم يحب الحقل والزرع والانعام، ولا يكرهون غير الفقر والتعب والارهاق، وكانت التعليلة على الشاي، والاحاديث المضحكة القديمة، وبعض امور المجلس القروي وشؤون القرية التي لم اكن افهمها، فواجبي يقتصر على صب القهوة والشاي والمغادرة فورا لممنوعية سماع احاديث الكبار، الى ان دخلت على تعاليلهم المغنية الشهيرة (سميرة توفيق)، ومذيعة الاخبار الفاضلة (سوسن تفاحة)، بعد ان احضروا التلفاز الذي يعمل على البطاريات السائلة ١٢ فولت، وهنا اختلفت وقائع الاجتماعات والتعاليل - واختلفت مخرجاتها.
كان هناك تلفازان فقط في القرية، وبالابيض والاسود فقط، اولهما عند العم (خ. ع. - رحمه الله) والآخر لاحقا عند والدي رحمه الله، وعليه اقتصرت التعاليل الصيفية والشتوية عند كليهما غالبا، لما لاحظته من زيادة تكرارها في بيتنا، وهذا ما يزيد من عبء صباب القهوة والشاي، لم اكن انتبه لما يذاع في التلفاز، فغالبا لا اجد مكانا اجلس فيه الا عند الباب، ولحين اتمام كاسات الشاي التي فرغت، وكنت (اقرمز) مواجها للوجوه المحدقة بالتلفاز بكل شغف، و متابعا لقسماتها الصلبة السمراوية ذات الشوارب الغليظة، التي تنفرج فرحا احيانا، او تعبس غضبا احيانا اخرى، تبعا لما يذاع في ذلك الصندوق العجيب، فقلّ النقاش بالشأن العام القروي، وزاد الصمت والانصات، وعلا ضجيج التلفاز، لكن الانطباع العام كان سينمائيَ الوقع، حتى بالاضاءة الصادرة منه، وخصوصا عندما يخبو ضوء مصباح الكاز نمرة ٤ او (شمبر) الغاز عند قرب انتهاء جرته. بالاضافة لأصوات المسلسلات القديمة (فارس ونجود)، وربابة (عبده موسى)، وغيرها التي لا اذكرها. الى ان تنهي (سوسن تفاحة) تلك التعليلة بأخبار الثامنه، ليعود الكل لبيته، وبعضهم لصلاة العشاء قبل ذلك، وتخلد القرية في سباب عميق، يوقظها منه صياح الديكة لفجر يوم جديد شاق.
كان ذاك التلفاز يعمل على بطارية سائلة ١٢ فولت، تشحن في المدينة كلما فرغت، وفي حال انها فرغت اثناء التعليلة، حيث تبدأ الشاشة بالصغر رغم صغرها اصلا، تستبدل ببطارية بك أب الوالد رحمه الله، وكانت نوع ستاوت جاونوير، او تركتور العم خ. ع، لذا كانا اول من اقتنى التلفاز - مبدأيا، و في الصباح الباكر يتم اعادتها للبكب، ولكن لابد من التعاون لدفش تلك الآلية الثقيلة مجتمعين لنتمكن من تشغيلها كون بطاريتها اوشكت على الانتهاء كذلك، ولا تستطيع بما تبقى فيها من شحنات لتشغيلها صباح ايام الشتاء، فالاهم من ذلك هو انتظار (سوسن تفاحة) تعلن اخبار الثامنة، ولا تعلم سوسنُ ولا سميرةُ كم نعاني صباحا من تعب لتشغيل البكب الجاثم كالبعير على الارض.
كل رجال القرية يعشقون تعليلة الشتاء مع ذلك التلفاز وما فيه من برامج شيقة، وبدأت معظم البيوت بشراءه، وخفت اجتماعاتهم الليلية، ومنذ دخوله للقرية زاد التباعد، وقل التقارب، وكثر الانعزال وخصوصا مع ايصال الكهرباء وقلة الاعتماد على البطاريات السائلة، فما اشبه اليوم بالبارحة، بفارق ان التلفاز اقتصر على فرقة البيوت عن بعضها، اما الخلوي الذكي الحالي، فزاد عن ذلك بفرقة الافراد فيما بينهم بذات البيت، فالكل قابع بزواية لوحده، يعاقر تطبيقات تلفونه الذكي وحيدا، وربما اختلفت الوجوه عن سميرة توفيق وسوسن تفاحة وعبده موسى، لكن المبدأ واحد - الانعزال والوحدة عن الاهل والخلان.
خلاصة التعليلة؛ الى اين تسير تعاليل الطيبين المفيدة، والى من توكل شؤون المجلس القروي، وهل تباعدت حدود القرية لتبلغ حدود العولمة الفارغة، التي اوقفها ذلك الفيروس الحقير في السنوات الثلاثة الخالية، نحتاج فعليا لتلك التعاليل الصادقة بلا مداخلات خارجية، لتعود صوامع القمح ملآى، وآبار القرية تروي قاصديها.
عندما تصمت اوهام القرية.
د. أحمد/ صباب قهوة تعاليل شتاء السبعينيات.