تبدو الأردن واحة إستقرار في منطقة تتخبّط في لُجج الفوضى. فبعد 12 عاما على إندلاع إنتفاضات (كذبة) الربيع العربي، أظهر النظام الأردني قدراً كبيراً من المرونة والتكيّف. ويعكس السلام النسبي الذي يعمّ البلاد وديمومة النظام قدرةَ النخب على توفير الموارد السياسية والإقتصادية بشكلٍ مدروس. وقد أدّت هذه المقاربة إلى خلق مظهر تغييري وتعدّدي سمح للنظام بإحتواء السخط الإجتماعي، وضبط المجتمع، وتوطيد أركان حكمه. لكن النجاح الذي حصده النظام الأردني حتى اليوم لايعني أن الآليات التي يعتمدها لإعادة إنتاج حكوماته نالت رضا مكونات المجتمع السياسية والإقتصادية والإجتماعية .
معطيات عديدة حصلت في التاريخ الثقافي والسياسي الأردني منذ الإستقلال ، وساهمت تجارب الأحزاب الوطنية الأكثر تعبيراً عن تحوُّلات المجتمع الأردني، كما ساهمت الثقافة الأردنية الجديدة في ترسيخ قيمٍ كثيرة، وبدأ الجميع يدعو إلى ضرورة إغلاق فاصل الشعبوية الدينية، وأوهام الزعامات الكاشفة لكثير من صور البؤس في مشهدنا السياسي، وكثير من العجز في القول والعمل.. إضافة إلى ما يمكن أن يلمسه الملاحظ من تكرار الأخطاء في تجربة التناوب التوافقي ، حيث يسود الإهتمام بتوسيع المكاسب المرتبطة بشهوة السلطة وإغفال الحزب والمجتمع.
لا ينبغي أن نغفل، إضافةً إلى كل ما سبق، رغبة النظام السياسي القائم في تجديد البنيات الحزبية، وذلك بعد فعل التآكل والإنقسام الذي لَحِق الأحزاب الوطنية، ولأن الأحزاب الأردنية كشفت، خلال السنوات التي تَحمَّلت فيها المسؤولية ، أنها بدون مشروع مجتمعي، ولا أفق تاريخي قادرٍ على مُواكبة التحوُّلات الجديدة في الأردن وفي العالم، أحزاب تمشي الخيلاء، معتقدة أنها تنطق حكمةً وسياسة، وأغلب قادتها يتفوهون بقفشاتٍ وحكاياتٍ لا علاقة لها بكل ما يجري في المجتمع الأردني، ولا علاقة لها بالتحدّيات التي تُوَاجِهُهُ في الداخل والخارج.
أنهت لجنة تحديث الدستور فاصلَ الحزب الذي اعتقد أنه الحل، وأنه وحدَه القادر على فك عقدة الانتقال الديمقراطي، "والقضاء المبرم على الإستبداد والفساد"، إلا أنه انشغل طيلة عقد بشعار "الإصلاح في ضوء الإستقرار"، معتبراً أنه عنوان إستقرار مجتمعٍ ونظام.
لنعد إلى الإنتخابات ونتائجها، ونفكّر في الأغلبية الجديدة التي يجري الإعداد لها، ونتساءل، في سياق الدورة السياسية الجديدة، عن الخيارات التي رسمت في السياسات العامة، خصوصاً ونحن أمام مشروع تنموي جديد، أعدَّته لجنة خاصة، وساهمت الأحزاب مجتمعة في بناء مفاصله الكبرى، وهي مطالبةٌ اليوم، بعد إغلاق فاصل الإسلام السياسي، بالتفكير في التنمية والتقدّم ومواجهة تحدّيات الراهن الأردني، بعد سنوات من التدريب على الحداثة المعكوسة، والضجيج الذي لم يُنتج سوى التراجعات والخيبات.. فهل تستطيع الأغلبية الجديدة بناء مشهد سياسي جديد؟ وقبل الإجابة، نتصوَّر أنه لا شيء تغيَّر اليوم في مشهد الأردن السياسي.
الدكتور هيثم عبدالكريم احمد الربابعة
أستاذ اللسانيات الحديثة المقارنة والتخطيط اللغوي