تعلمت من الملاحة الجوية الكثير؛ وكانت سببا في تصويب بعض مفاهيم الحياة لدي؛
كل أجهزة الملاحة الجوية ذات مرجعية واحدة للشمال الحقيقي او المغناطيسي، منه تقاس كل زوايا اتجاه الطائرة عن مقصدها حيثما حلقت، فتعلمت ان لا بد من مرجعية لزوايا اتجاهات دروب الحياة - كي لا اضل وربما ضللت احيانا، ولم اجد مرجعية خيرا من كتاب الله وسنة نبيه عليه السلام.
من أجهزة الملاحة ما يرشد الكابتن للمطار، باتجاه له ومسافة عنه، وحالما يدخل مجاله الجوي، يختلف نوع الارشاد، ليصبح الى خط منتصف المدرج وزاوية الهبوط عليه، فتعلمت ان ما ينفع للمسافات البعيدة حتما لا ينفع للقريب منها، فكلما اقترب السائر من هدفه، زادت الدقة المطلوبة منه، واختلفت وسائل التقرب اليه، فالأحمق من قد يضل المنزل وقد اوشك على الوصول اليه.
كانت النجوم اساس الملاحة الجوية في بدايات الطيران في خمسينيات القرن الماضي، (وبالنجم هم يهتدون)، حيث كانت قمرة القيادة زجاجية تكشف للملاح رؤية نجم القطب الشمالي وبيان اتجاهات الطيران بالنسبة له، ثم تطورت تلك الاجهزة لتصبح ارضية، تشبه منارات البحار، لكنها كانت ذات مديات قصيرة لا تتجاوز ال ٢٠٠ ميل جوي، فوجب تركيب العديد منها لتغطي كامل مسار الطائرة، ثم اخيرا بعد ٢٠٠١ تطورت لتصبح عبر الاقمار الصناعية الملاحية GPS، فعادت للسماء مرة أخرى، كما النجوم، لكنها اليكترونية الاشعاع، فتعلمت ان جميع القوانين الارضية الوضعية ستبقى قاصرة بالمقارنة مع قوانين السماء الالهية، فارتاح قلبي لعدل ربي.
لكل جهاز ملاحي مراقبات داخلية دقيقة، تفحص دقة معلومات الاتجاه والبعد المرسلين للكابتن، من خلال مقارنتها مع قراءات مرجعية مخزنة مسبقا فيها، فإذا خرجت تلك القراءات المرسلة عن نطاقات المخزنة المسموح بها، اوقفت تلك المراقبات عملية الارسال برمتها، ايمانا من مصمميها ان اجهزة الملاحة الارشادية خيرا لها ان تصمت من ان تعطي الطيارين معلومات خاطئة مضللة قد تنحيهم عن وجهاتهم الاخيرة بعد طول سفر. فتعلمت ان اصمت اذا كان الكلام مضللا، وقبل ذلك، تعلمت ان المراقبات الداخلية - الوازع الداخلي - يجب ان تعاير كل سنة على الاقل لتكون مرشدا دقيقا لمعلومات أجهزة ملاحة دروب الحياة، فمن يصلح الملح اذا الملح فسد.
اجهزة الملاحة ترسل ولا تستقبل، تعطي ولا تأخذ، وليست كالرادار الذي يرسل اشارات تصطدم بجسم الطائرة وتعود اليه ليحسب زمن ذهابها وايابها ومنها بعدها عنه، لكن اجهزة الملاحة معطاءة، كريمة لا تنتظر عودة معلوماتها، تعطيها بدقة وبلا مقابل، ولا تنتظر جزاءً ولا شكورا، فتعلمت من ذلك ان العطاء هو الافضل من الاخذ - رغم انه احيانا ليس في مكانه، فما كل الطائرات بالجو تستحق الارشاد الملاحي لمطار حياتي - وخاصة المعادية منها على الاقل، لذا تطفأ اجهزة الملاحة في المعركة الجوية عادة.
وأخيرا، تعلمت ان اتعلم من مهنتي لحياتي، كما علمني والدي كيف تعلم هو من مهنته لحياته، فكان يبني البيوت ولا يهدمها، وكان رحمه الله يهتم بالاساس قبل السقف، فما ان يرتفع السقف ويعلو، كان يشعر بالفخر والانجاز - حتى لو لم يوفَ كامل حقه، فقد سامح قبيل وفاته بكل ما له على الناس من ديون قديمة - قد سبقه اصحابُها للدار الاخرة - ولم يستدن من أحد.
لكل من مهنته نصيب، وانا راضٍ بنصيبي منها والحمدلله.
عندما تصمت الاوهام.
د. أحمد.