قبل عدة أعوام نشرت وسيلة إعلامية تقريراً عن حالة لطفل من أحد مدن المملكة العربية السعودية تسببت في تعثره في المدرسة في الصف الأول الابتدائي دون تقدم حتى بلغ سن الحادية عشرة، ما دفع أسرته إلى البحث عن سبب ذلك، وليتم تشخيصه في أحد مستشفيات العاصمة السعودية في النهاية بعد رحلة طويلة من البحث والتقصي والمعاناة بمرض «اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه - افتا» أو (ADHD – Attention Deficit Hyperactivity Disorder) كما يعرف عالمياً، والمصنف ضمن فئات صعوبات التعلم المتعلقة بمشكلات جينية ووراثية تتسبب في تشتت الذهن بشكل سريع عند بعض الأطفال ممن يكرمهم الله ويكرم أهاليهم به، وهو يعد من أكثر الأمراض انتشاراً في العالم بين الأطفال بل وحتى بين الكبار، فبحسب آخر الدراسات تصل نسبته على سبيل المثال بين أطفال المملكة العربية السعودية إلى 15% وإلى ما يزيد عن 8% بين أطفال بلد كالمملكة الأردنية الهاشمية، بينما تصل النسبة إلى 16% بين أطفال الولايات المتحدة الأمريكية، والغريب أن مما يتصف بعض المصابون بهذا الداء شدة الذكاء ولذلك يلقبهم الكثير من الأطباء والمختصين (بـأقران آينشتاين)، ذلك أن العالم الفيزيائي الفذ ألبرت آينشتاين صاحب النظرية النسبية يعتبر أشهر من أصيب في طفولته بهذا المرض، ونظرا لتميز الغرب في النظر الى هؤلاء بأنهم ليسوا من ذوي الاحتياجات الخاصة واعتبارهم من ذوي «القدرات الخاصة» فقد خصصت تلك الدول مشاريع ومراكز وبرامج خصصت لتطوير قدرات المصابين ليتم دمجهم مع المجتمع، ولا عجب إن كان الراحل «ستيف جوبز» أحد الذين أبهرونا بمنجزاتهم في مجال التقنية المعلوماتية أصيب في صغره بمشكلات فرط الحركة وتشتت الانتباه وعسر القراءة في آن واحد، ولا عجب أيضا إن علمنا بأن «جراهام بيل» مخترع الهاتف و«توماس أديسون» مخترع الإضاءة و«والت ديزني» بل وحتى الرئيس الأمريكي باراك أوباما قد عانوا في صغرهم من فرط الحركة وتشتت الانتباه.
تروي والدة أحد المصابين بفرط الحركة وتشتت الانتباه تفاصيل معاناتها مع ابنها على مدار 20 عاماً، حيث تم تشخيص إصابته في التاسعة من عمره ولم تجد السيدة أي مدرسة متخصصة بعدها تقبل حالة ابنها بالشكل المأمول، فاضطرت لمخاطبة عدة مدارس في أوروبا والولايات المتحدة والأردن ولبنان، وأرفقت صورة من التشخيص الطبي مع طلبها، لكن معظم المدارس العالمية طلبت مقابلة شخصية فاضطرت للسفر وحدها إلى عدة دول بسبب ارتباط الأب في العمل، وبرغم ذلك لم توفق في إيجاد مدرسة مناسبة لابنها لسنتين كاملتين، وكان الطلب يقابل بالرفض من المدارس العالمية المتخصصة بسبب عدم إقامة الأسرة في نفس البلد، حتى قبلته إحدى المدارس الأجنبية المتخصصة في لبنان لينتقل إليها من السعودية ويكمل دراسته حتى أنهى الثانوية العامة، وتكمل الأم: لا يهمني أنا ووالده كم صرفنا من أموال فنحن سعداء والحمد لله فقد أكمل ابننا تعليمه الثانوي وتعلم اللغة الإنجليزية واكتسب مهارات مميزة في التعامل مع تقنيات الحاسب الآلي، وهو الآن في السنة الأخيرة في كلية الهندسة في تخصص الإلكترونيات في إحدى أقوى الجامعات الأمريكية وقد أصبح إنسانا طبيعياً ومنتجاً وسيعود ليخدم وطنه في مجال تخصصه، وختمت الأم بنصيحتها لأولياء الأمور بضرورة التوصل للتشخيص الطبي الدقيق ومن ثم البدء في البحث عن مدرسة ملائمة تستطيع التعامل مع قدرات الطفل ومتابعته حتى وضعه على الطريق الصحيح بإذن الله مهما طال الزمن أو صعبت الخطوات وتعثرت.
ومن هنا ننظر إلى مثال من آلاف وربما ملايين الأمثلة على العزائم الحديدية عندما تحفر صخور الجبال ولا تعترف بالمستحيل، وتسير مؤمنة بقدرة خالقها عزوجل على قلب الحال في لحظات من المحال إلى أجمل مآل.
نعم أمثلة كهذه ومثلها الكثير تصرخ في آذاننا بين حين وآخر لتقول لنا "نعم نستطيع"، نعم نستطيع أن لا نعترف بشيء اسمه لا يمكن ولا أمل ولا فائدة من الجهد والمثابرة والإصرار، خصوصاً عندما تصدق النيات وتطهر النفوس، وقد رأينا ذلك بأعيننا في كأس العالم الأخيرة بأقدام أسود المنتخب المغربي الشقيق الذي سطر اسمه بأحرف من ذهب حتى نجح في هزيمة منتخبات رفعت كأس العالم في يوم من الأيام، واضعاً اسمه بين الأربعة الكبار ليس فقط بالفن الكروي بل وبجمالية مبادئ بر الوالدين الراقية وهرولتهم نحو أحضان أمهاتهم في مشاهد زينوا بها أعيننا بعد كل انتصار، مؤكدين أن تميزك لا يعني أبداً ضرورة انسلاخك من قيمك ومبادئك.
هذه القيم التي لأجلها نحتاج أن نتكاتف لأجل أجيالنا القادمة لتصل إليها فكرة أن لا مستحيل في رحلة البحث عن النجاح، ولكن مع ضرورة عدم نسيان قيمنا ومبادئنا وأعرافنا في رحلة كهذه، بل على العكس ننثر هذه المبادئ في كل بقعة نتواجد بها ونؤكد على جماليتها ورقي معانيها ونكون خير سفراء لها.
نعم نستطيع أن نحفر لنا مكاناً في لوحة الإبداع بهويتنا كما هي لنحقق أجمل النجاحات في حياتنا، ونعم نستطيع أن نتجاوز عن الأحقاد والانشغال بصغائر الأمور ونضع نصب أعيننا إعادة مكانتنا بين كبار الأمم بقلوب نقية صافية محبة لكل من يحب لنا الخير في هذا العالم، ونعم نستطيع أن نقدم رسالتنا من خلال كل الوسائل التي تصل المعلومة من خلالها إلى العالم بأجمل صورة وبدون الضرورة إلى أعمال ليس لها هدف سوى إظهار أسوأ ما في المجتمع وتسليط الضوء عليه بأسوأ صورة ممكنة، ففي خضم الحرب المستعرة في كثير من أنحاء العالم على كل القيم والعادات والتقاليد السليمة التي تنادي بها المجتمعات السوية لسنا بحاجة نحن وأجيالنا القادمة لمزيد من تشتيت لما بقي من جميل أفكارنا ومعتقداتنا.