بقلم الدكتور احمد الحسبان - كان لدى والدي رحمه الله خاناً للتبن، يقبع جانب بيتنا القروي، يخزن فيه والدي تبن الحمار، الذي كان يحمل والدي واخشابه وعدة البناء للقرى المجاورة، لم يكن ليصلها بدونه الا بشق الانفس، اذ لا اليات تحملها وقتئذ في سبعينيات القرن الماضي، لذا كان الحمار يستحق خان التبن وأكثر، وكنا نطعمه منه وجبتين صباحا ومساء، والعليقة دائما ملآى الا اثناء المسير، يتم نزعها من رقبته لكيلا يشغله مضغ التبن عن حث الخطى، عكس حال السيارات حاليا، لا تسير الا بنظام الفل من الوقود او ما دون ذلك، وكان لذلك الخان في ذاكرتي حادثة لا ازلت اذكر تفاصيلها، لا تغيب عني كلما دقت قريتي - مسقط رأسي - ناقوس الذكريات القروية الجميلة.
في ذات يوم من ايامي الشقية، خنقت احدى دجاجات امي - الحمراء اللون البلدية الجميلة، كنت قد طاردتها فأمسكتها ولاعبتها بعنف، ومن شدة عنفي ماتت خنقاً بين يدي الصغيرتين، وكنت ابن ست سنوات لا نعومة لأظافري، ولم اعرف كيف اواري خطيئتي تلك، فكل البيت غرفتين وحوش ولا مجال لاخفاء تلك الجريمة الا في خان التبن، وفعلا دفنتها بالتبن بعد ان اعمقت حفرتها فيه لكيلا تفوح رائحتها اولا، ولكيلا يصل اليها (شاعوب) ابي كذلك، الذي كان يغرف به تبن الحمار، واكتملت بذلك اركان جريمتي - على الاقل بتفكير عقلي المحدود.
عادت الدجاجات والديك للخم وقت الغروب الا واحدة، تلك التي خنقتها بيدي، وكالعادة تفقدت امي رحمها الله دجاجاتها والديك، فوجدتهن عشرة فقط، فسألتنا انا واخوتي ان كنا رأينا الحادية عشرة المفقودة، ونظرها يثقب عيني لشكها المتيقن انه انا الذي وراء اية مشكلة قد حدثت او قد تحدث، فلطالما عهدت شقاوتي صغيرا، الا انني وبكل ثقة كذبت، وانكرت حتى انني رأيت الدجاجات ذلك اليوم، فاحتسبت والدتي الامر لله تعالى، وقالت : ربما كانت نصيب كلب جائع، سطى عليهن على حين غفلة منا، كما يحدث بكل قرى الوطن انذاك.
مرت عدة ايام والامر شبه منسي، وثقتي بأنه ذهب طي التبن والنسيان تزداد، متناسيا ان مستوى التبن يتناقص يوما بعد يوم جراء جوع الحمار، وما كنت ادري ان جوعه سيكشف خطيئتي، الا ان جاء يوم سداد الديون المخفية، ففي صبيحته، صحوت على صوت ابي فاغرا فاه مناديا اسمي، اغيري يمكن ان يكون المتهم والمجرم!! فخرجت مسرعا لأرى شاعوب ابي رباعي الرماح قد غاص بلحم الدجاجة الميتة المنخنقة، ونظرات ابي تقدح شزرا، ويده الاخرى ترتفع لعقال رأسه، لا ينقصها تنفيذ العقاب الا كلمة اعتراف مني، وقد تسبقها ايضا، فأنا صاحب السوابق والسجل الاسود. فاعترفت فورا بدموعي التي ذرفت خوفا قبل الالم. وبدأ العقاب المرير، لا ادري كيف اتلقى ضربات العقال الاسود يتلوى على جسدي النحيل من كل الجوانب، مخفيا وجهي تحت كفي يدي الصغيرتين بوضعية الدفاع المستكن، الذي لا يسمن ولا يغني من تلقي الجلد تلو التعزير. لقد ضربني حتى كلّ متنه، وكلّت قدماي من حمل جسمي المتعب، فسقطت مغشيا علي، كان فطوري هو ذلك العقاب اللارحيم، تبعه قرصات امي ولومها وكلامها الموبخ، الذي اكمل عقابي الجسدي بآخر نفسي، اكثر قهرا واشد وقعا من جلد العقال المهند.
حُرمت عشيتها من بيضة العشاء المسلوقة، ومن نظرات العطف المسروقة، وتتابع العقاب النفسي عدة ايام، حتى انساهم اياه خطأ اخ آخر، او تكرار غيره، وماتت في نفسي براءة الطفولة كما ماتت دجاجتها المخنوقة. تم افهامي بعدها ان العقاب كان لأجل الكذب - لا لأجل خنق الدجاجة فحسب.
خلاصة الحادثة؛ ايامنا كتبن الحمار، لا تخفي شيئا الا وتفضحه، بنقصانها يوما بعد يوم تظهر ندوب الزمن وخطيئاته، فكلها من اعمارنا تمضي، وتكشف بمرورها نقاط ضعف كانت قد اخفتها ايام الشباب. رحم الله والدي وادخلهما فسيح جناته، على يديهما تعلمت الا اكذب بعد ذلك اليوم - وان اكتملت اركان الكذب لدي. فحباله قصيرة كما يقولون، سرعان ما يكشف قصرها - تبن حمار جائع.
عندما تصمت الاوهام.
الدكتور المهندس أحمد الحسبان.