(والسماء ذات الرجع والارض ذات الصدع)؛ (عبس). صفتان متلازمتان للسماء والارض، هما الرجع والصدع، وجاء اثباتهما بموجب قسم الهي في قرآن محفوظ ويتلى، يتبعهما آيتي تأكيد هما (انه لقول فصل، وما هو بالهزل)، فصفة السماء انها ذات رجع، اي ذات مطر يعود ويرجع كل حين، وصفة الارض انها ذات صدع، اي تصدع، والصدع عادة ما يكون بالاجسام الصلبة، وربما يعني تشقق التراب ليخرج منه النبات، وخاصة بعد سقوط المطر عليه، وقد يكون ذلك لتوالي آيتي الرجع والصدع، وذكر ذلك ايضا في موضع آخر (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) - النبأ. فالشق يختلف عن الصدع، وقد يكون احد درجاته الدنيا، فالتسلسل بالآيات في سورة (عبس) يحدث عن صفات ثابتة للسماء والارض، بينما التسلسل في (النبأ) فيتحدث عن وصف خروج النبات بعد المطر جراء تشقق التربة عنه، او حتى بعض الصخور الرسوبية اللينة، ثم ذكر انواع النبات كلها من ضعيف الجذر كالحبوب، الى قويه كالنخل وباقي الاشجار، دلالة على سهولة خروجه من الارض. ففي (عبس) صفة تصدع قد يكون مرعب، لم يذكر فيه نبات ولا متاع، وفي (النبأ) صفة نبأ واخبار لطيف عن تشقق منبت للزرع ومتاع للبشرية وشريكها الانعام (متاع لكم ولانعامكم)، وكل الكائنات الحية تتمتع بالزرع والشجر والخضرة، تستلطف اجوائها ومنها تأكل وتنمو. وفي كلا السورتين هناك تصدع وتشقق للارض، غالبا ما يأتي بعد مطر.
مقصد القول؛ ان صفتي الرجع بالمطر للسماء، والصدع للارض، هما صفتان متلازمتان لهما، وكحال كل صفة فيها درجات، من ادناها لاعلاها، ففي صفة الكرم مثلا؛ عندما نقول فلان كريم، فهناك الاقل كرما منه والاكثر منه كذلك، وكلهم كرماء يحملون صفة الكرم. وكذلك الشجاعة والمروءة والصدق والكذب والجبن والاقدام والخداع وغيرها. وهذا ينطبق على صفتي الرجع والصدع، فهناك المطر الغزير الوابل وهو رجع، وهناك القليل وهو رجع كذلك، وكلاهما رجع، يعود كل حين، او رجع من تبخر مياه البحار والمسطحات المائية. والصدع مثله، فهناك صدع خفيف ضحل، قد يدنو لدرجة تشقق الارض عن النبات كما يفسره بعض العلماء، وقد يعلو لدرجة الزلازل المدمرة كذلك، فكلاهما تصدع في قشرة الارض، تعتمد قوته على اختلاف درجاته، ولكن الاشد منه يكون بعمق طبقات قشرة الارض، مسببا تحركها وزلزلتها.
القشرة الارضية تتكون من عدة صفائح تسمى تكتونية كما يقول علماء الجيولوجيا، ومنها العربية والاناضولية والافريقية، تتداخل وتتراكب مع بعضها لتشكل لوحة كامل القشرة الارضية، والتي هي اصلا عائمة على مائع ملتهب دائم الحركة يمتد الى مركز الارض، والتي عليها مهد الله تعالى الارض من سهول وجبال واودية لتتوائم مع معيشة الانسان. وطالما انها في حركة دائمة عائمة، فهي عرضة للتصادم والتمدد والتصدع باستمرار، بل وتتحرك عن مواقعها ايضا كما اثبتت صور الاقمار الصناعية فتركيا مؤخرا تحركت باتجاه اوروبا ثلاثة امتار جراء زلزال نورداجي الاخير بقوة ٧.٨ ريختر، وهذا ما يؤكد الحقيقة العلمية الواردة بأكثر من موضع في القرآن عن التصدع والزلازل (اذا زلزلت الارض زلزالها - اي زلزالها الاكبر يوم القيامة بعد النفخة الاولى). ولقد اثبتت مراصد الزلازل الآخذه بالكثرة والانتشار مؤخرا ان معدل حدوثها ما يقارب نصف مليون زلزال سنويا في اليابسة، وبمعدل شبه ثابت، تنخفض اعدادها وتزداد ولكنها تبقى ضمن المعدل السنوي، وبدرجات مختلفة، ما زاد منها عن ٥ درجات بمقياس ريختر لا يتعدى ال ١٠٠ زلزال سنويا، يكون مدمرا وقاتلا، ويعزى ذلك بسبب المباني السكنية الضعيفة، فزلازل تشيلي مثلا قوية بقوة زلازل تركيا وسوريا الاخيرة، ولكنها ليست بذات الدمار لقوة البنى التحتية فيها. ما يهمنا هنا اثبات ان الارض في زلازل مستمرة طوال العام، وبدرجات مختلفة، وحسب موقع البلاد من حواف تلك الطبقات التكتونية، فتزداد قوتها كلما كانت التجمعات السكنية طرفيه قريبة من الصدع، وتقل كلما ابتعدت مواقعها باتجاه مركز الطبقة الاكثر ثباتا نسبيا - والله اعلم.
بالنهاية؛ وبما ان صفة الصدع ثبتت بقسم الهي في سورة عبس، ولم يحدد درجته، فالارض قد تتصدع من تحت اقدامنا في اي لحظة وفي اي مكان بقدرته تعالى، وبالقدر والدرجة اللذان يريدههما الله عزوجل، فليس بالكون - بما فيه الارض - ما يجري بدون مشيئته وارادته، وهذا من رحمته تعالى: انه لا اله الا هو، رحمن: واسع الرحمة، ورحيم: دائم الرحمة، فلو ترك الامر لغيره - معاذ الله - لهلكنا جميعا غورا في باطن الارض او ردما تحت الانقاض.
خلاصة القول، هو ما ورد بذات السورة، انه لقول فصل وما هو بالهزل، حتى السماء ذات الرجع والمطر الذي نحب، هي ايضا ذات الطوارق، (والسماء والطارق، وما ادراك ما الطارق، النجم الثاقب، ان كل نفس لما عليها حافظ)، لا ثابت في هذه الحياة الا التغيير ذاته، فكل شيء قد يتغير في لحظة، ولكن الحافظ هو الله، وبالطريقة التي يريد. السماء والارض بيده، وفيهما من آياته الكثير، ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم. ليس لنا من الامر شيء الا الدعاء بالحفظ واللطف بما يقدره علينا رب السماء ذات الرجع والطارق، ورب الارض ذات الصدع. اننا فعلياً نعيش على ارض تتصدع - لا يثبتنا عليها أحدٌ غير الله تعالى، وتحت سماء بلا عمد ترجع وتطرق - لا يحمينا من سقوطها علينا غيره. له العتبى حتى يرضى، نستغفره لما نعلم ولا نعلم.
عندما تصمت الاوهام.
الدكتور المهندس أحمد الحسبان.