بقلم الدكتور المهندس أحمد الحسبان/ استاذ جامعي في كلية علوم الطيران - تضاربت بالآونة الاخيرة عقب زالزال نورداجي التركي - السوري بعض المقالات والتحليلات العالمية، مفاد بعضها ان سبب الزلزال المدمر الأخير هو سلاح الدمار الامريكي المسمى هارب (HAARP)، ومفاد الآخر منها بما في ذلك السلطات الامريكية النفي والضد، وانه ليس بصحيح وليس بحقيقي. ولكل منهما ادلته وشواهده. علمياً وشخصياً اتفق مع الرأي الآخر النافي، وتالياً مبررات التفنيد العلمية مستندا على حقائق علمية تخص اتصالات الفضاء الكهرومغناطيسية (تخصصي الدقيق)، وبحوثي فيها خلال دراسة الماجستير والدكتوراة في فرنسا والمانيا وهنغاريا ومنذ عام ٢٠٠٥. اضعه بين ايديكم بشكل مقتضب يفهمه القارئ غير المختص.
اولاً، ان نطاق الترددات المستخدم في منظومة (هآرب) والتي هي HF، اي High Frequency، (الترددات العالية ذات الطول الموجي الاكبر بين نطاقات الترددات)، هي ترددات لا تخترق طبقة الايونسفير الموجبة التأين، بل تنعكس منها باتجاه الارض وحسب زاوية اصطدامها بها، لذلك تستخدم لاتصالات ما بعد الافق اللاسلكية، وكانت الاساس بالاتصالات بعيدة المدى قبل ظهور اتصالات الاقمار الصناعية الحديثة لما قبل سبعينيات القرن الماضي، وكانت تؤمن الاتصال بعيد المدى بين البلدان والقارات، بنوعيه ارض - ارض، وارض - جو مع الطائرات آنذاك. وتعتمد بشكل اساسي على كثافة ايونات طبقة الايونوسفير وتأينها الموجب القطبية المتغير حسب اوقات النهار والليل والصيف والشتاء، حيث تختفي طبقة D السفلى الاقرب من الارض ليلا وتعود لتتكون نهارا، لذلك كان لا بد من استخدام اكثر من تردد ليلي ونهاري، وثالث كإحتياط لتغير الطول الموجي، وعليه يتغير طول الهوائي حسب التردد العامل، فيقصر ويطول تباعا باضافة او اختزال قطعة منه، واهل الاتصالات اللاسلكية يعرفون ذلك جيدا. وعليه فزيادة القدرة البثية للارسال لا تغير من خصائص الانعكاس حتى لو بلغت 3.6 ميجا واط كما في هآرب المزعوم. وكما هو معلوم ان الانعكاس لا يكون بنفس قوة الاصطدام اذا ما اخذت بعين الاعتبار الخصائص الجسيمية للضوء و الكهرومغناطيسية. فأقصى ما يمكن حدوثه هو ارتداد تلك الموجات عن طبقة الايونوسفير وبقدرة اقل من القدرة المرسلة لتعود الى نقطة اخرى على الارض. وبما ان مبدأ ال (هآرب) يعتمد على البث العمودي بزاوية ٩٠ درجة مع طبقة الايونوسفير، والمركز في بؤرة بتلك الطبقة وبقدرة بث عالية، فهذا يعني انها لن تنعكس على الارض مرة اخرى، ولن تخترق الطبقة ايضا لطبيعة التأين المضاد للاختراق، وبما ان الطاقة لا تفنى ولا تستحدث، وانما تتحول من شكل لآخر حسب قوانين نيوتن، فهذا يعني ان تلك الطاقة قد تتحول الى حرارة فقط، قد تسخن الجزء المتأثر من طبقة الايونوسفير الشاسعة بتغطيتها للارض كاملة، والعميقة بما يكفي (ارتفاعها من ٧٥ الى ١٠٠٠ كم علما ان اقصى حد للطيران هو ١٤ كم فقط (٤١ الف قدم))، وذلك لتحمي الارض وسكانها من الإشعاعات الكونية والانفجارات الشمسية الضخمة، ولولا ذاك لوصلتنا الاشعاعات الكونية الضارة رغم قوة قدرتها الهائلة، فمنها ما ينعكس عنها للخارج، ومنها ما يتحول لحرارة فيها وحسب زاوية الاصطدام ولكن لا تخترقها الينا. وبما ان قوة الانفجارات الشمسية الاتية من الفضاء الخارجي اكثر بكثير من قدرة بث هآرب، فهذا يعني ان تغييرات هآرب بتلك الطبقة سيكون محدود التأثير بالمقارنة، اذ انها اقوى منه ولم تؤثر فيها، فكيف به هو.
ثانيا؛ وحسب معادلة الاتصالات المعروفة لدى كل من يحمل دبلوم اتصالات، فإن القدرة المستقبلة تساوي القدرة المرسلة ناقصاً الخسائر بالقدرة على كامل مسار الارسال من النقطة أ الى النقطة ب شاملا الكوابل والهوائيات في الاجهزة ذاتها، وعليه واعتمادا على نسب الامتصاص وزاوية الاصطدام العمودية بطبقة الايونوسفير، فستكون الطاقة المرتدة للارض قليلة جدا، كتلك التي كانت مستخدمة باتصالات الترددات العالية قديما، ولم تؤثر على الانسان ولا الكائنات الحية بدليل فوائد استخدامها على الاقل، فكيف ستحدث تحركا وزلزالا بطبقات الارض التكتونية ذات العمق لا يقل عن ١٨ كم. فهذا غير معقول منطقيا. واثبتت احصائيات الدراسات الاخيرة ان ٣٠ بالمئة من اسباب الزلازل على مدار المئة عاما الماضية سببها حفر آبار البترول والمياه في تلك المناطق وبقوة زلازل دون ال ٥ ريختر. وان ١٥ بالمئة منها فقط سببه تجارب القنابل النووية والذرية قد يزيد عن ٥ ريختر اذا تكرر حدوثها في ذات المنطقة وخاصة تحت مياه البحار او صحراء نيفادا، ولم تشهد زلالزل مرعبة حتى الان. والباقي سببه طبيعي ناتج عن ظواهر طبيعية لا علاقة للبشر فيها ومنذ مئات السنين قبل اختراع الموجات الترددية بكل نطاقاتها، بدليل تصريحات اردوغان بعد الكارثة ان هذا الزلزال الاخير هو الاقوى الثاني، حيث كان الاول المدمر قبل مئة عام راح ضحيته ٢٤ الف شخص وبقوة ٧.٨ ريختر.
رابعا؛ نطاقات الترددات الاعلى من الترددات العالية HF, وهي VHF، و ال UHF، اي ال Very High Frequency ، وال Ultra High Frequency، تخترق طبقة الايونوسفير، ولكنها غير قادرة على حمل قدرات عالية كتلك التي في (هآرب) وقيمتها 3.6 ميجا واط، لذا لم يستخدمها علماء هآرب لاختلاف الغاية، حيث كانت الغاية منه احداث زلزلة او تحرك في طبقة الايونوسفير على امل التحكم بالطقس والاستمطار بتحريك الغيوم في الطبقات العليا، ولم يثبت نجاحهم بذلك حتى.
أما ما يشاع من تعطيل ٩ سفارات/قنصليات بذلك اليوم، او ما يقال عن تنبؤات مسبقة عن ذلك الزلزال، فتفسير ذلك له عدة احتمالات، اولها ان السفارات قد علقت دوامها بسبب التنبؤ ذاته واحترازيا فقط، او انها ارادت اثبات قدرة هآرب (المزعومة) لتحقيق الغاية منه كقوة ردع امريكية، مع ان الجيش الامريكي قد صرح رسميا بأنه توقفت جميع تجارب ونشاطات هآرب ومنذ عام ٢٠١٤، وتم تحويله لجامعة ألاسكا لغايات البحث العلمي للطلاب فقط. اما صاحب التتبؤ نفسه، فلقد رد عليه اكثر من استاذ جامعي متخصص بالزلازل، عالميون ومشهورون، بأنه متخصص بعلم الجيولوجيا فقط، وليس الزلازل، وان الزلازل يستحيل التنبؤ بتوقيت حدوثها، وانما يمكن التنبؤ بمكان حدوثها فقط بناء على احصائيات قام بها ذلك العالم المتنبئ عن النشاط الجيولوجي في العالم ومن ضمنها تركيا وعلى مدار اعوام عديدة، ولقد ثبت عدم دقة طريقته وتنبؤاته سابقا في اكثر من منطقة، اخرها زلزال كاليفورنيا الامريكي، حيث كان من باب اولى ان ينذر قومه وبلده. بالمختصر اصاب التنبؤ بالصدفة فقط وبطريقة غير دقيقة - حسب علماء الزلازل.
مقصد القول، ايمانا برب واحد، لا احد يتحكم بمخلوقات الله الا بما اراد وبالقدر والزمان والمكان الذي يشاء ربنا فيه ذلك. فالسماء ذات الرجع، والارض ذات الصدع، ومنذ الاف السنين.
خلاصة القول؛ علميا وحسب البحوث العلمية المثبتة التي كنت جزءا من اعضاء لجانها بالاعوام الماضية، لا يمكن ل (هآرب) ان يكون سببا في زلزال نورداجي التركي - السوري الاخير، ولا علاقة للولايات المتحدة الأمريكية بذلك، مع ان محاولاتها مستمرة بطرق اخرى غير هآرب، فهي لا تؤول جهدا وبكل الوسائل لتحقيق الردع والسيطرة على بلدان العالم، لاحقاق النظام العالمي الجديد لحقبة ما بعد الحرب الباردة ١٩٩٠، وخاصة بعد ظهور تكنولوجيا الصين الاخذه بالصعود بشكل متسارع وقوي، وخاصة انها لم تستطع منع مناطيد الصين وانتشارها، او ايقاف صاروخها التائه. والله اعلم، فما اؤتي الانسان من العلم الا قليلا.
عندما تصمت الاوهام.
د. احمد الحسبان/كلية علوم الطيران