بدت عيناه متحفزتين تريدان التقاط كامل المشهد، فيما ثغره ينكشف عن ابتسامة لم يستطع أحد تفسيرها. طفل صغير بعمر الورود يخرج من الموت من تحت أنقاض الزلزال الأكثر فتكا منذ عقود. كان مبتسما ينقل نظراته البريئة على كل من حوله، ليحاول فجأة صفع عمال الإغاثة الفرحين بكفه الصغيرة، ربما يحاول التعبير عن العتاب على التأخر في إنقاذه، وتركه ساعات طويلة يقاوم وحيدا تحت الركام. هو ذات الطفل كيف كان سيرد ويعبر عما في داخله لو علم بالآراء “السخيفة” و”السطحية” التي تعتبر وتعتقد أن الله عاقبه بالزلزال وبموت أفراد عائلته وأقرانه تحت الأنقاض. منطق غريب يؤمن به بُلهاء!
مهما امتلكنا من تعاطف، فإننا لن نستطيع أن نضع أنفسنا في صورة المعاناة التي اختبرها الضحايا. أيام ثقيلة تمر، وساعات تمضي مغلفة بالخوف والوجع وغياب اليقين، وهم يحاولون التشبث بالأمل تحت الأرض، فيما العديد منهم خانته أنفاسه، فأسلم روحه في لحظة يأس مريرة لم تسعفه في أن يفكر بالتقاط أنفاسه المنهكة. إنهم أناس عاشوا لحظات تضاهي كل معاني الألم والقهر، في الوقت الذي تعمّ فيه تعليقات “سامة” تقول إن الزلزال، الذي طال حياة عائلات بأكملها، هو “غضب رباني” دفع ثمنه أطفال وأبرياء وفقراء ومحتاجون.
أطفال ومسنون وأسر بأكملها عانوا الألم الجسدي والروحي والنفسي، وذاكرة سوداء وقاتمة تشكلت بسبب الحروب والتشريد، وتحديدا في سورية، حيث اضطروا أن يكونوا مواطنين في أراض منكوبة بالخراب والصراعات، ليأتي الزلزال كما لو أنه ثالثة الأثافي، ويفتح الباب لجهلة يرونه غضبا إلهيا واستحقاقا بالعذاب عليهم.
منذ لحظة حدوث الكارثة التي خطفت عشرات الآلاف من الأرواح البريئة، وعداد الموت يتسارع، بينما تتضاءل فرص العثور على أحياء تحت الأنقاض، فيما هناك منتظرون لأي بارقة أمل تكشف وجها محبوبا تنتشله سواعد الخير التي تسارع الزمن لإنقاذ الأرواح. من ينتظرون أحباءهم للخروج من تحت الردم الهائل، هم أيضا يتجرّعون المرارة بأكملها!
في ثوان معدودة، اهتزت الأرض، وانطفأت الأضواء، وتبخرت الأحلام التي راودت أناسا كثيرين لم يفكروا ولو للحظة أن الحياة يمكن أن تنتهي بمثل هذه السرعة، وبكل هذا الألم، لينفتح المشهد على أطلال وبيوت منهارة، وأجساد عربد فيها الموت.
من بعيد، ومن أمام شاشاتنا الأنيقة؛ نتعاطف، نحاول أن نمارس حزنا يليق بالحدث، وأن نتألم ونضع أنفسنا مكان هؤلاء المنكوبين وهم يخرجون من تحت الركام؛ جثثا أو أحياء، أو يلفظون أنفاسهم الأخيرة. لا شيء في مقدورنا أن نفعله لأجلهم سوى الدعاء. لكن ذلك لا يساوي شيئا، فالمصاب جلل والتفاصيل مريرة، والأمر مرهون فقط بمن عاش التجربة المريرة بكل تفاصيلها.
الأيام سوف تمضي؛ وربما تعود الحياة شيئا فشيئا إلى شبه طبيعتها، ويعاود الناس ممارسة حياتهم اليومية بكل ما فيها من روتين، لكن الكارثة التي عاشتها الإنسانية في سورية وتركيا سوف تبقى جمرة في الذاكرة، وألما في الصدور، ومرارة لدى كثيرين فقدوا أحباءهم من دون أن يحظوا بلحظة وداع منهم.
ما كان قبل الزلزال لن يعود إلى ما كان عليه. ثمة حدث جلل طغى على كل المشهد. ألم مزروع في الخاصرة، وربما خوف كبير من تكرار السيناريو نفسه في يوم ما!