زاد الاردن الاخباري -
كتب : طاهر المصري - على مدار السنوات الخمس الماضية، كتبت، وبإلحاح شديد، عن خطورة وأهمية ما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة من تغييرات قسرية، وفق برامج وخطط عميقة، بعضها واضح الأثر والدلالة والهدف، وبعضها الآخر خفيّ الدلالة والتأثير، ويخضع إلى معايير الأهداف الإستراتيجية ممتدة الغايات لسنوات قادمة.
وكما أصبح اليوم شديد الوضوح، ولا يحتاج إلى خبراء لاكتشاف مخاطره وأثره على الجوار العربي لفلسطين المحتلة، فإنّ هذا الوضوح المريب بات يكشف عن عمق الشراكات والمصالح الضيّقة بين القوى الفاعلة في الإقليم والمنطقة، بكلّ ما فيها من تناقض وتعارض مع المصالح الإستراتيجية الفعلية لشعوب وكيانات المنطقة السياسية عربيا.
فعلى مدار العقدين الماضيين، احتدمت صراعات مصالح الشركات والدول، في الإقليم والعالم، على تغيّر مصادر ومسارات إنتاج ونقل الطاقة، في الغاز والنفط والكهرباء والطاقة الشمسية، وما يرتبط بها من بنى تحتية وفوقية، فخطوط الغاز العربية، ومشاريع إنتاج الطاقة النظيفة، ومشاريع شبكات الربط الكهربائي العربي، تحوّلت كلها فجأة، وبقدرة قادر، إلى مشاريع تحتل فيها الدولة العبرية الدور المحوري الأبرز، ناهيك عن المشاريع الإقليمية والدولية لنقل الغاز التي تعثّرت، نتيجة لتعارض مصالح الشركات والدول والقوى، مفجّرة بذلك ربيعا عربيا دمويا، غطّى معظم جغرافية القارة العربية، وما يزال، وصولا إلى استباحة دول المنطقة العربية من جديد، بقواعد عسكرية وتواجد عسكري مباشر لقوى أجنبية وإقليمية على الأرض، ضاربة عرض الحائط بمفاهيم السيادة والأمن الوطني والقومي، التي أنتجتها مرحلة ما يسمّى الإستقلال العربي.
سياسيا، كان الجميع الرسمي العربي مقتنعا بأنّ معضلة القضية الفلسطينية هي العقبة الأبرز، والكأداء، أمام كلّ مشاريع الطاقة والنقل الإقليمية التي جرى التوافق على معظمها، منذ مطلع الألفية، وعلى نحو مكتوم، فجاءت تسريبات خطة ترامب، بكل فجاجتها، على مدار سنوات، وصولا إلى إعلانها بوضوح، مع المشاريع الإقتصادية المرتبطة بها، والتي جرى الإعلان عنها في مؤتمر البحرين الإقتصادي ؛ فكان الإعلان عن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس ( الموحّدة ) عاصمة لدولة الكيان، والموافقة الأمريكية الصريحة على ضمّ مستوطنات الضفة الغربية وأغوار الأردن الفلسطينية ويهودية الدولة، وما يتضمنه ذلك من شطب سياسي للقضية الفلسطينية، وإحالتها إلى مجرّد مسألة سكان، تمكّن إدارة حياتهم بتوافقات مع الجوار الإقليمي، تريح دولة العدوان من عبء الصراع الديمغرافي الأزلي في دولة الكيان ؛ وكان أن تطوّعت قوى عربية فاعلة بالقفزة المجهولة الكبرى نحو التطبيع، وبحماسة غريبة خالية من أي ضمانات فعلية، تحت عنوان السلام الإبراهيمي، ولكن، وعلى الرغم من رحيل ترامب صاحب الخطّة، وإدارته، فإنّ مفاعيلها لم تتوقف، ومشاريعها الإقتصادية لا تزال متواصلة على قدم وساق عربيين.
ما هو مختلف اليوم هو أنّ الخطط المعدّة لشطب القضية الفلسطينية لم تتوافق مع تقديرات غير واقعية لأصحاب الخطط السياسية والشراكات الإقليمية، على الرغم من كل وهن الحالتين الفلسطينية والعربية وضعفهما ؛ ذلك أن مصالح الشعب الفلسطيني ومشكلاته كانت أصعب، وأكثر تعقيدا وثباتا من أن يتمّ شطبها والقفز عنها، ناهيك عن المصالح الأردنية الأساسية ومكانتها في تلك المشاريع الإقليمية المأمولة من الفاعلين الإقليميين، وما تعنيه تلك المشاريع من تغيير جذري ونهائي في المكانة الجيوسياسية للأردن كدولة في الإقليم.
ومن تعقيد اللحظة العربية الراهنة، أنّ الشركاء الإقليميين يستعجلون تنفيذ مشاريعهم الإقليمية، التي تقضي بدمج إسرائيل في المنطقة، كشرط لازم وأساسي لانطلاقها، وإسرائيل بقيادتها الفاشية الحالية تستعجل تنفيذ ترتيبات مصالحها الفعلية على الأرض أولا، بكل ما في الإستيطان من فجاجة وهمجية، وفي الوقت عينه، فإنّ الشعب الفلسطيني المظلوم، وعلى الرغم من ضعف ممثليه وقيادته، ما يزال يستعصي على كل أشكال الكسر والتطويع، على الرغم من فداحة وبشاعة الآلة العسكرية المستخدمة ضده، بمقاومته الأسطورية التي أذهلت العالم وما تزال.
ومن سوء حظ الشركاء المتحمسين، أنّ الطرف الأمريكي الآن ليس لديه رؤية ولا إمكانية، سوى خفض تصعيد الأزمات وإدارتها، وفي كل مناطق نفوذه في العالم، لصالح تركيز جهوده ومقدّراته في مستنقع الصراع المتفجّر مع روسيا في أوكرانيا.
تلك الحقيقة الموضوعية للحظة صراع المصالح والشراكات في المنطقة والعالم، هي ما قاد إلى القمّة الأمنية في العقبة الأردنية، استجابة من جميع الأطراف الفاعلين للرغبة والرؤية الأمريكية في إدارة الازمة، وبكلّ ما رافقها من أخطاء سياسية، وبكلّ ما تلاها من خسارات وخيبات ميدانية سياسية، فلا قيادة الحكومة الإسرائيلية الفاشية قادرة على لجم ثور الإستيطان الهائج، ولا الشركاء الإقليميين كانوا قادرين، كما أثبتت قمّة العقبة الأمنية على اللحاق بمفاعيل ثور الإستيطان الإسرائيلي المسعور في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
رئيس وزراء أردني أسبق