بقلمي؛ - وللسحورِ فلسفتان؛ أولاهُما أنّ الصائمَ مهما أكلَ في وجبته هذه من الطعام نوعاً أو كماً، لن يدومَ ذلك الطعامُ في معدتِهِ أكثرَ مِن ستِ ساعات، وسيتمُّ صيامَه للغروب ببطنٍ خاوٍ. وهذا مدعاةٌ للتفكرِ بأن الدنيا مهما جمعَ فيها الإنسان فإنه تاركه لا محالة مع الرحيل الأخير. والرسالة هنا من السحور قد تكون بأن ليس للمرء من الدنيا إلا ما أكلَ فشبِع، وما لَبِسَ فأفنى، أما ما جمَعَ فأوعى فهو مِن نصيب الورثة، وليس مِن نصيب من جمعَها بأوعيتِها زيادةً عن حاجتِهِ، فالوقتُ المتاحُ بعمرِهِ لن يُسعفه للإستمتاعِ بكلِ ما قد يجمع.
وثانيهُما؛ أن لو كان الصراعُ مع الوقت لإنجاز المهام والواجبات تجاه الخلق والمجتمع كما هو الصراعُ مع الوقت قبيل آذان الفجر الثاني، لتحقق بعض مُراد التقوى من الصيام. حيثُ يتسابقُ الصائمُ فيه مع الوقت سباقاً عنيداً، فتُحسبُ الدقائقُ الأخيرةُ قبيل الإمساك بمقياس الثواني، ليتمكنَ من شربةِ ماءٍ سريعة، أو تناولِ حبةِ دواءٍ منسية، أو لتمرةٍ سوداءَ ابيضّت بنظره، ثم يُلام مَن بَكّرَ بالآذان قبل غيره بثوانٍ أشدَّ اللوم. ولكن، وعلى الجانب الآخر، تُضيّع أوقاتٌ كثيرةٌ بلا حسابٍ عندما يتعلق الأمرُ بالغير، أو عندما يتعلق باللاممنوع حكماً واللامحدود بتوقيت.
مقصدُ القول؛ بتلك الفلسفتين بماهية شرعية السحور ميزانٌ يحكمُ بعضَ مقاييسِ الحياة، مفادُهُ التوازنُ بين المتضادات، فلا يجدرُ بالمرء جمعَ وإكتناز الكثيرِ الزائد مما لا يُستفاد منه خلال معاشه، ولا يجدرُ بهِ التهافتَ على الوقت الضيّق بينما الدنيا كلها متاحة له بغيره، كما لا يجدرُ بهِ الكيلَ بمكيالينِ مختلفين، أو بمكيالٍ إحدى كفتيه مثقوبة، فلا يكوننَ ما يخصّهُ مهمٌ جداً - وما يخصُّ غيره فلا. في حين يجدرُ بهِ أن يكونَ معتدلاً هادئاً قبل السحور كما يفترض أن يكون بعده، ويكونُ منصفاً بما هو لغيره من مصالح الناس عنده كما لو كان لنفسه وبذات درجة الحرص والإهتمام.
خلاصةُ القول؛ اختصرها ربي سبحانه وتعالى بقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ۗ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ٢٥٤-البقرة. هذا اليوم العظيم هو يوم الحساب النهائي، وما ضابط شرعية السحور إلاّ أحد التدريبات العملية على إدارة الوقت والمال قبل ذلك اليوم. فما أشبه توقيت السحور بذلك اليوم المنتظر من حيث الدقة والسرعة! وما الإنفاقُ إلاّ مفهومٌ شاملٌ للمال وغير المال كذلك، ففي بعض الإبتسامِ صدقة وإنفاق أخلاقي، لذا ذكر الله تعالى البيع للمال، وذكر الخلّة - وهي المودة والصداقة وحسن التعامل - لصدقات النفس. وذكر الشفاعة - وهي الرحمة - للتراحم وقضاء الحاجات. فجمع بنفس الآية ضرورة إنفاق المال والأخلاق معاً قبل يوم الحساب. والكافرون بذلك هم الظالمون لأنفسهم - ولغيرهم.
آياتٌ وحقائق منسية؛
الدكتور المهندس أحمد الحسبان