ما إن غادر الرئيس الصيني شي جين بينغ روسيا ولقائه بالرئيس الروسي ومناقشتهما للمبادرة الصينية التي تتكون من النقاط ال12 والتي جاء بها الرئيس الصيني, حتى بدأنا نسمع بردود فعل أوروبية إيجابية وتداعت الأصوات من هنا وهناك , حيث قال رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز: " يتعين على العالم الإستماع لصوت الصين من أجل إيجاد تسوية للحرب في أوكرانيا." وتبع ذلك إعلان زيارة للصين لكل من الرئيس الفرنسي ماكرون ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين مطلع شهر نيسان القادم.
لقد أدرك الأوروبيون بعد مرور 13 شهراً على هذه الحرب بأنه لايوجد فيها غالب أو مغلوب وأن من يدفع الثمن لإستمرارها هم وحدهم, لما وصلت إليه أحوالهم من ضائقة إقتصادية لم يشهدوها منذ الحرب العالمية الثانية, من إرتفاع حاد في أسعار النفط والغاز وأسعار السلع الغذائية والمعيشة بشتى أنواعها , إضافة إلى التضخم غير مسيطر عليه والذي أثر على البنوك الأوروبية وشهدنا الإسبوع الماضي تداعي بنك كريدي سويس السويسري , والآن هناك إحتمالية لتداعي بنوك أخرى مثل بنك دويتشه الألماني, إضافة إلى الإضرابات التي شلت قطاعات مختلفة في كل من الدول ذات الإقتصادات القوية في أوروبا وهي فرنسا وبريطانيا وألمانيا والتي قد تُطيح بتلك الحكومات عن قريب إذا إستمرت تلك الحرب.
ولا ننسى ضغط الولايات المتحدة على الدول الأوروبية لتزويد الأوكرانيين بالأسلحة والذخائروالدعم اللوجستي والدعم المالي والتي إستنزفت إقتصاداتهم ,في حين تُعاني تلك الدول من إزدياد في مديونيتها وعدم تحقيقها النمو المطلوب, والسياسات الفيدرالية الجائرة لكبح جماح التضخم.
لقد تفوقت المبادلات التجارية الأوروبية - الروسية قبل الحرب ب30% زيادةعن المبادلات بين الولايات المتحدة مع أوروبا, وأصبحت أوروبا تحصل على الغاز من الولايات المتحدة بثلاثة أضعاف السعر الذي كانت تحصل عليه من روسيا من خلال خطي نورد ستريم 1 و2, ليس هذا فحسب بل فُرض على الدول الأوروبية زيادة نسبة موازنة الدفاع والتسليح ب 2.5 % من ناتجها المحلي الإجمالي , وهذا الناتج تناقص العام الماضي بنسبة 10% نتيجة الحرب, وتدرك الدول الأوروبية أن إستمرار الحرب وتطورها قد يؤدي إلى إقحام الصين فيها, لتكون خصماً لهم وبالتالي خسارة للمبادلات التجارية مع الصين والتي تُقدر ب750 مليار دولار والتي تزيد بنسبة 20% لصالح الصين عن مبادلات الولايات المتحدة التجارية مع أوروبا.
إذن مبادلات أوروبا التجارية مع الصين أو روسيا فيها تفوق على مبادلات أوروبا مع الولايات المتحدة , فمن له مصلحة بإستمرار هذه الحرب؟
وكذلك الإغلاقات لبعض المصانع والشركات الأوروبية بسبب الإرتفاع في كل من تكاليف التصنيع وأسعار المواد الأولية وأسعار الطاقة والنقل اللوجستي مما جعلهم خارج نطاق المنافسة العالمية .
وأيضاً فقدان زخم السياحة لأوروبا والتي كانت تساهم في الإقتصاد الأوروبي بسبب الحرب.
وأخيراً أعداد اللاجئين الأوكرانيين الذين تدفقوا إلى أوروبا نتيجة الحرب والذي يُقدر عددهم ب 8 ملايين لاجىء, شكلوا عبئاً ثقيلاً على الحكومات الأوروبية, كل ذلك لم يكن ليحدث لو فكر الأوروبيون قليلاً بأبعاد هذه الحرب الإقتصادية والسياسية والعسكرية والإجتماعية, فما أن خرجت أوروبا من جائحة كورونا حتى تلقت صدمة الحرب الروسية- الأوكرانية والتي تسارعت أحداثها وأُقحمت فيها بطريقة متسارعة حتى أصبحت هذه الدول مهددة الآن بمواجهة مباشرة مع روسيا , وأي مواجهة تلك, إنها مواجهة نووية, لقد أعطى الرئيس الروسي أوامره بنشر أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا من قذائف وذخائر وصواريخ من اليورانيوم المنضب, وهُددت عواصم أوروبية بالنووي مثل برلين ولندن, في حين لا زال كبار السن الأوروبيين تحت صدمة الحرب العالمية الثانية يتذكرونها عندما كانوا أطفالاً وقد أرعبتهم حينها, حيث شهدت الأراضي الأوروبية صراعاتها, إضافة إلى صراعات الحرب العالمية الأولى, فهل ستكون الحرب العالمية الثالثة تكراراً للحربين العالميتين الأولى والثانية؟ إن الحرب العالمية الثالثة تختلف إختلافاً كاملاً عن الحربين السابقتين لأن هذه الحرب ستكون بنكهة نووية.
لا يزال الوقت يسمح بنزع فتيل هذه الحرب من قبل الأوروبيين , لمصلحة جميع الأطراف, فما بناه الأوروبيون بعد الحرب العالمية الثانية خلال الثمانين عاماً الماضية سيتم تدميره من أجل حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
لذلك يعول الجميع على التحركات الدبلوماسية الأوروبية السريعة مع الصين وأطراف أخرى للوصول إلى قواسم مشتركة تدفع بجميع الأطراف للجلوس على طاولة المفاوضات لإطفاء نار الحرب التي إشتعلت منذ 13 شهراً لما فيها مصلحة لجميع الأطراف وللعالم أجمع.
الخبير الإستراتيجي في مجال السياسة والإقتصاد والتكنولوجيا
م.مهند عباس حدادين
mhaddadin@jobkins.com