زاد الاردن الاخباري -
من إصدارات دار وائل للنشر في العام 2021، رواية بعنوان "77 خريفاً" للكاتبة الأردنية فاطمة محمد الهلالات، جاءت الرواية في 216 صفحة من القطع الصغير. تكرمت الكاتبة بإهدائي نسخة من الرواية فوجدت أن أقل الشكر قراءة الرواية وكتابة انطباعي عن مضمونها.
فإن كانت بداية الحديث عن أركان الرواية، نجد أن الكاتبة أعطت اسماء وكنى للشخصيات الثانوية في الرواية، ولم يكن الأمر كذلك مع بطل وبطلة الرواية، فذكرتهما في سياق الرواية بلا اسماء صريحة، استعاضت عن ذلك بتوظيف الحوار المباشر، مستخدمة الفعل والضمير، ومع ذلك كان توظيفها لــ (قال، قالت، أنا، أنتَ، أنتِ، صديقي) مريحاً للقارئ، وإلى جانب هذا الاستخدام، تمكنت الراوية من وصف شخصية كل منهما وصفاً تصويرياً، يكسب القارئ القدرة على إدراك حجم المعاناة التي تمثلها كل شخصية، فكانت بطلة الرواية فتاة غامضة الماضي والحاضر والمستقبل، وبطل الرواية شاب اكتسى ثوب الرهبنة الاجتماعية لا الرهبنة الدينية، في دلالة على الحرمان من مكتسبات الحضارة نتيجة الظروف التي يعيشها، وهذا الانطباع تولد مرة من الوصف المكاني لسكن بطل الرواية إذ يقول: "أنا أسكن صومعةً هناك، وإن شئتِ كهفاً.. سمّيهِ ما شئتِ" (ص 15)؛ "وقام من فراشه، وألقى أنّات جسده المرتجف على مقعده القديم" (ص 140)؛ "شعر بيد أبيه تمسك بالمقعد المنزلق في تيه الكهف" (ص 141). ومرة تالية تولد من قوله: "أخبرتكِ ذات مرة أنني لا أملك هاتفاً.. تلفازاً.. ولا حتى راديو.." (ص 182).
أما مسرح أحداث الرواية، فكان متنزه عام تكاد تشاهده من دقة وصف الكاتبة له، فمن جهة يطل هذا المتنزه على حافة منحدر، والجهة المقابلة الثانية للمتنزه يمتد على طولها طريق يعج بحركة المرور، وفي الجهة الثالثة من جهات المتنزه يمكنك مشاهدة موقف الحافلات، ويحيط بهذا المتنزه جدار حجري، ويحوي بين أركانه مقاعد خشبية ومقاعد صخرية، ونباتات مزروعة وأرجوحة، وهذا المكان بكل مكوناته له خصوصية هامة في تطور التدرج الزمني لسردية الرواية، فقد مثل حالات الفرح والسعادة لمرتاديه قبل تفشي وباء "كورونا"، ووفر فرصة اللقاء بين شخصيات الرواية، وفي مرحلة الحظر التي فرضتها إجراءات الوقاية من انتشار وباء "كورونا" وموت المكان من الزوار، ومن الفتاة التي مثلت دور البطولة في الرواية، بقي هذا المكان شاهداً على لهفة الشوق إلى لقاء بطلة الرواية من قبل "صديقها" بطل الرواية، الذي امضى أيام الحظر يرتاد المتنزه، ويشغل نفسه في مطالعة أوراق بطلة الرواية التي تركتها في حقيبتها على مقعدها عند آخر زيارة لها للمتنزه، ومن ثم الالتقاء من جديد في نفس المكان بعد تخفيف إجراءات الحظر، وبهذا التفاعل المكاني والزماني، تكون سردية الرواية كشفت عن ركنها الزمني بكل وضوح، والذي مثل زمن التعايش العالمي مع وباء كورونا.
أما البنية الموضوعية للرواية، فأنها تأسست على ثلاثة محاور تحاكي تقلبات الذات الإنسانية، ونطاق صراعها مع الأحداث الاجتماعية، وانعكاس هذا التأثير على تطلعات الفرد في بيئة عاجزة عن احتواء طموحاتها.
تبنى المحور الأول من سردية الرواية فكرة مقت الواقع، الذي انتجته التفاعلية البشرية السلبية في جوانبها الاجتماعية المختلفة، سياسية كانت أو اقتصادية، بحيث تكونت صورة ضبابية تخفي وراءها الحزن والبؤس من ويلات الحروب والنزوح والتشرد، نتيجة اجتهادات الحكام، والزعماء، والقيادات السياسية، وتجار الحروب، وكل من تولى للمجتمع الإنساني مهمة ولم يخلص في أدائها، وذهب مقدماً مصالحه الخاصة ومصالح فئته على حقوق العامة، وعلى الرغم من خصوصية الشرق كإقليم جغرافي في سردية الرواية، فأن الراوية لم تقف عند حدوده فقط في تأطير هذه الصورة، بل جعلت لها فضاء يتمدد ليُظل بظله كل العالم، فعن مطاحن الحروب تقول: "كلما طهوا بالدم كعكةً لمصلحتهم قالوا: لله .. للأديان .. للحق" (ص24). وتقول: "وهذه الأرض يا صديقي أرضٌ خضبتها الدماء والحروب منذ بداية الخليقة" (ص 29). وفي حوارها السردي عن المناسبات الاجتماعية والإنسانية، توظف انطباعها على لسان بطلة روايتها بصورة تدعو للدهشة، فمثلاً كان لها بمناسبة ذكرى عيد الحب رأي يقلب معنى الاسم إلى ضده بسياق شعري، إذ تقول:
"نعم، العيد أحمر ووردهُ أحمر
وأحمرنا لون الخوف
ولون الدم
يسيل رخيصاً في التراب
تغسله دمعات المطر
تحت أقدام العسكر
وأشباه البشر....." (ص 32)
المحور الموضوعي الثاني للرواية، كان يمثل حالة من حالات تفاعل الراوية مع الرواية، يظهر ذلك من خلال العاطفة الجياشة في السردية الروائية، التي كانت تحاول تكوين صورة عظيمة متخيلة لدور شخصية الأب في صبغ شخصية الأبناء، ودور هذه الشخصية المعين والمساعد في تخطي الأبناء لمصاعب الحياة، واللجوء إليه عند كل مرحلة من مراحل العمر، أو عند كل موقف قهر يخلخل كيان الفرد، لكن معالجة الراوية لهذا المحور كان يخالطه الكثير من الحزن والألم، نتيجة سبق الموت لروح الأب، ومقاساة شدة الحرمان من عاطفة الأبوة، والعيش في كنف اليتم ــ وكفى باليتم شر رفيق ــ فتخاطب نفسها فتقول: "وأنا يا أبتِ لم أعرفكَ فأنا لا أذكرك .. ولكن لهذا القلب دقاتٌ مختلفة وحساباتٌ ..." (ص 137)، وبلغة شعرية تقول:
"وأُحادثك في نفسي
في كثير من الكلام
كنتُ أتمنى أن أحكيه
لو كنت معي" (ص 120).
وفي مواضع أخرى توظيف فرصة اطلاع صديقها بطل الرواية على أوراقها ورسائلها التي كتبت فيها خواطرها، فيقول في ذلك: "قرأتُ كلاماً كثيراً عن أبيها في رسالتها السادسة"... قالت فيها:
ومنذ رحلتَ يا أبتِ
وكلانا ميت
أنا فوقَ الأرض
وأنتَ تحتَ الأرض" (ص 130).
"وكتبت لك رسائلاً خبأتها لك
في جوف الليل" (ص 131).
وعندما يجتاح الحزن مشاعرها تخاطب والدها تقول: "هنا في مخدع الحزن يا أبتِ، كلما اشتدَّ حزني فاض حنيني إليك..." (ص 136).
وأميل هنا إلى القول بأن أسم الرواية جاء من استحضار هذه العاطفة، فكانت الدلالة عليه برمزية "77 خريفاً"، والتي يمكن تفسيرها بمجموع المدة الزمنية لعمر بطلة الرواية وعمر والدها ــ مع إمكان تفسيره تفسيراً آخر وفق سردية الرواية ــ وهذا الاستدلال يمكن أن يقودنا إلى الاعتقاد بأن المحور الموضوعي الأول والثاني من الرواية يحاكي فن السيرة الذاتية، مع الحرص على استخدام الأسلوب الفني الأدبي في الحوار السردي في بنية الرواية الموضوعية.
أما في المحور الموضوعي الثالث من محاور الرواية، فقد حاولت الراوية من خلاله خلق مفهوماً خاصاً للصداقة، فكان مصطلح "صديقي" مفتاح الحوار مع بطل الرواية على لسان البطلة، وفي الوقت نفسه، كان هذا المصطلح مثار التساؤل في نفس بطل الرواية، فلماذا تناديه "صديقي" وماذا تريد أن تفهمه؟ لا إجابة لا تخمينات، "وكانت كلما حدثتني تقول لي يا صديقي، ومنذ عرفتها وهي تجلس وحيدة! واستحضرت ذاكرته قولها لما سألها عن وحدتها وأكدت أنا منذ البدء وحدي، ولماذا تقول لي يا صديقي، وأنا غريب، وهي لا تصادق أحداً؟!" (ص 129).
ومن نتائج تعلمها من دروس العمر تقول: "أربعون عاماً من عمري مضت، لأفهم بأنه ما كان علي أن أضع رأسي على كتف أحد ..." (ص 133)، وتقول: "وأنا لم أخبركَ يا أبتِ أنني يوماً قد احتضنتُ صخرة، هل كان ذاك الحجر أرق وأرحم من قلوب كثيرة زرعت بين ضلوع البشر؟!" (ص 139).
وفي تمام سياق الرواية، تصور لنا عمق المشاعر التي فاضت بها نفس بطلة الرواية تجاه بطل الرواية بقولها: "كانت تتخيل .. وهي تضع رأسها باطمئنان على كتفهِ الأيمن، قال: بِمَ تحلمين؟ قالت: لا أحلام، هذا هو كل ما كنتُ أحلم به" (ص 207). وكأنها تريد أن تقول لنا أن صدق المشاعر ونبل الأخلاق، وقدرة الأفراد على التفاهم هو طريق السعادة، لهذا قالت في الحب: "ومن قال أنّ الحب كلمات تُقال ووروداً تُهدى، ونسيج شموع وخيال... من يحبك هو إنسان عميق الوجود في واقعك، يكون معك، كما أنت معه في كل شيء" (ص 8)، وعادت آخر الرواية لتقول لنا تذكرون موقف الحافلات الموجود على تلك الجهة من المتنزه، فإن به حافلة تنتظر ركوب صديقي بها ليسافر "وضع قدمهُ اليمنى على درج الحافلة، وأجهشَ ... فرحلَ بعضُها وبقيَ بعض..." (ص 209).
كانت سردية الرواية متماسكة واستطاعت الراوية التنقل بين محاور الرواية بسلاسة، وتمكنت من عكس مؤثرات الحالة التي تناقشها في نفسية القارئ، وكانت دقيقة في استخدام العبارات والكلمات، فكانت تشير إليها في سياق الحديث، ثم كلما تقدمت في قراءة سردية الرواية تجد أنها كانت تؤسس عليها البناء الموضوعي للرواية، فكل كلمة تكاد تكون مهمة في الرواية. وإلى جانب ذلك كان للخطاب الشعري حضوره في سردية الرواية، ومحاولة تفسير الأفكار التي تطرحها بأسلوب فني لطيف.
الدكتور كايد الركيبات
kayedrkibat@gmail.com