زاد الاردن الاخباري -
أكتب هذا المقال على خلفية نقاش محتدم كان قد جرى بين مجموعة من الأصدقاء، حول الدولار الأمريكي الذي ملأ الحديث في شأنه الدنيا وشغل الناس بوصفه العملة التي تتأثر وفق حركته قيمة كل العملات صعودا أو هبوطا، وحول إمكانية استمراره عملة يمتد بها الزمن لتبقى أبد الآبدين محورًا أوحد للاقتصاد العالمي.
أحد هؤلاء الأصدقاء «حلف» بأغلظ الأيمان أن الدولار سيبقى مهيمنا على الاقتصاد العالمي، مؤكدا، من خلال معلومات مستقاة من الإنترنت وفق ما أوضح، أنْ لا قوة اقتصادية على وجه الأرض تستطيع تغيير هذا الواقع. وقبل الانطلاق في تحليل نازلة الدولار وصلاتها بالتحولات العميقة التي يعيشها عالمنا اليوم، أنبه فحسب بأن القَسَم في مسائل جدالية لا يخدم موقف المحاور ولا يتجه بالحوار إلى العمق المنشود والمآلات المرغوبة إقناعا أو اقتناعا، وإذا ما حل التمترس خلف رأي يرفده قَسَمٌ فإن هذا الجدال يتحول إلى جدال بيزنطي، أو إلى ما نطلق عليه نحن بلهجتنا العامية «معاياة» لا طائل من ورائها، ولا يستفيد منها أحد غير إرضاء غرور صاحب هذه «المعاياة». بعد هذا الاستطراد القصير، أعود إلى الدولار وما أدراك ما الدولار.
لتغيير هذا الواقع ثمّة عمل حثيث تتقصد به دول عظمى أخرى تقليل تأثير الدولار وتركه بلا ضوابط يتحكم في اقتصاد العالم، وعلى رأس هذه الدول الصين وروسيا بوصفهما دولتين مصدرتين للسلع ومن أكثر الدول تضررا من هذا الوضع القائم وأكثرهما عرضة للعقوبات الاقتصادية التي تلحق أضرارا جمة باقتصاديهما، ونضيف إليهما الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا - وهي دول تُصنّف ضمن كوكبة الطليعة لدول العالم الأسرع نموا اقتصاديا - والتي أطلقت على نفسها تسمية الـ«بريكس» وهو الاسم المرشح للعملة الجديدة المفترض اعتمادها في مواجهة الدولار وهيمنته على موازين التجارة الدولية.
دول الـ«بريكس» تسعى منذ العام 2009 إلى خلق عالم ثنائي القطبية بناءً على إيمانها بأنه ليس من العدل ولا الإنصاف أن تتحكم دولة واحدة في الاقتصاد العالمي من خلال عملتها؛ إذ بمقدور صاحبة
العملة أن تضعف هذا الاقتصاد وتُلغي ذاك، ولا شيء يمنعها من ذلك نظريًا وعمليًا؛ إذ يكفينا أن نتأمل سلسلة العقوبات الأمريكية المسلطة على الأفراد والدول وآليات تنفيذها حتى نتأكد من ذلك. ولعل تغيير قاعدة بيع النفط بالدولار التي بدأت أكثر من دولة العمل به من أولى الخطوات المهمة التي ستغير هذا الواقع. وقد سبقت ذلك وتزامن معه أيضا عزوف الدول المذكورة، إلى جانب المملكة العربية السعودية، عن شراء سندات الخزانة الأمريكية. فالصين بعد أن كانت سنداتها تبلغ أكثر من تريليون دولار أصبحت أقل من 900 مليار دولار، فيما صفرت روسيا رصيدها من السندات الأمريكية، والسعودية التي توظف جزءا كبيرا من عوائد نفطها في السندات السيادية الأمريكية خفضت حجم استثماراتها من 185 مليار دولار إلى أقل من 111 مليار دولار. إذًا، الاستثمار في سندات الخزانة الأمريكية لم يعد مغريا كما كان بسبب التهديدات العقابية التي ترفعها أمريكا في وجه كل من يقف ضد سياساتها.
ثمة من يزعم أن المملكة العربية السعودية عندما أبرمت مع الصين عقودا لبيع النفط بالإيوان الصيني قد قطعت خطوة مهمة في اتجاه التحرك لإضعاف الدولار، وأعتقد أن مثل هذا القول يجانب الصواب وتنقصه الحصافة؛ ذلك أن السعودية، في ظني، تتحرك وفق ما يمليه عليها منطق المصلحة الوطنية. فالسعودية لاتزال حليفا قويا لأمريكا والمؤشرات الدالة على ذلك كثيرة، رغم بعض التصريحات السفيهة التي تنطلق من هنا وهناك من أعضاء الحزب الديمقراطي الذي لا يكن للملكة العربية السعودية ودا، والسعودية تتبع في مختلف خطواتها السياسية والاقتصادية منهجًا أولياته وطنية ومن ضمن قيمه حفظ العلاقات الاستراتيجية مع القوى المؤثرة في العالم حماية لمصالح السعودية أولا ولمصالح شركائها الاستراتيجيين.
العالم يرسم لنفسه خطًا مغايرًا لما وجد نفسه محكومًا به على مدى العقود الثمانية الماضية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وبداية هيمنة أمريكا قوة اقتصادية عالمية جبارة تتزعم أوروبا الغربية من جهة والاتحاد السوفييتي متزعما المعسكر الاشتراكي من جهة ثانية وما تمخض عن ذلك من صراعات لم تنتهِ بسقوط الاتحاد السوفيتي، وإنما هي مستمرة طلبًا لمزيد من الهيمنة لابتلاع ما تبقى من دول المنظومة السوفياتية القديمة ومحاصرة الاتحاد الروسي الذي وجد نفسه اليوم محاطًا بالناتو، قبل الالتفات للصين التي تمثل خطرا ممكنا يهدد الهيمنة الأمريكية.
لا أحد ينكر اليوم أن الطاقة ومصادرها عامل في تغيير تحالفات الدول بناء على ما يحقق مصالحها ومصالح الحلف الذي تنتمي إليه، ولا أحد بإمكانه أن يتجاهل سعي الدول الكبرى للسيطرة على منابع النفط سواء بالقوة القاهرة أو بالتحالفات. وفي أيام الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة خسر السوفييت رهان حرب الطاقة؛ لوقوف الدول المنتجة للنفط مع المعسكر الغربي ضده لأنه كان يرفع شعار الاشتراكية والشيوعية نظاما بث من خلاله الخوف في الكثير من الدول التي باتت حليفًا قويًا للولايات المتحدة، ومنها الدول العربية والخليجية المنتجة للنفط بكميات غزيرة كانت تضمن الاستقرار والأمن الطاقي العالميين. أما الآن فقد تغيرت الأوضاع؛ فالاتحاد الروسي وإن ورث معالم القوة السوفييتية لم يعد دولة شيوعية تُصدر أفكارها وترعى تنظيمات سياسية حالمة بإقامة حكومات اشتراكية تمهيدا لسيادة دكتاتورية البروليتاريا، بل أصبح دولة تتجه بخطى حديثة لتبني مناويل ليبرالية، وأصبح بتحالفاته وصداقاته المختلفة مع الصين والهند والبرازيل والمملكة العربية السعودية وغيرها قادرا على ضمان شيء من التوازن المفقود في الساحة الدولية بحكم سيطرة القطبية الأحادية التي لم يرَ منها العالم خيرا، فالفقراء ازدادوا فقرًا، والحروب باتت تدار بالريموت كنترول خدمة لمصالح أمريكا وحلفائها والتجارة العالمية واقعة تحت رحمة دولار يطبعه البنك المركزي الأمريكي.
بعد أكثر من سبعين عامًا على هيمنة الدولار بات من الضروري أن يتم تغيير النظام المالي الذي تتحكم فيه دولة واحدة بقي مستقبل الشعوب المستضعفة معه معلقا بصعود هذا الدولار وهبوطه. والتغيير في مطلق الأحوال من مصلحة الدول كافة إلا الولايات المتحدة التي من مصلحتها بقاء الدولار مهيمنا تطبع منه ما تشاء معتمدة على نظام البترودولار الذي أوجدته في مطلق القرن العشرين. وفي ظل التغيرات الحالية يبقى السؤال مطروحا: هل يصمد الدولار أمام محاولات التمرد على سلطانه الأوحد على التجارة الدولية وعلى عالم المال والأعمال؟