الدكتور المهندس أحمد محمود الحسبان - قد يواجه المرء كتيبة جنود مدرعة وينجو، ولكن لا يستطيع مواجهة جبروت إمرأة بدون ان ينجو؛
أثناء دراستي بهنغاريا، كانت لي جارة ستينية، بدت على وجهها - وكل الظاهر من جسمها - علامات توحي بدنو القبر من انتهاء حياتها، وكانت تبادلني تحيات الصباح والمساء في كل غدوة وروحة من المحاضرات، كنت أعتقد أنها مطلقةٌ تذهب لعملها الإداري بالجامعة وتعود - لكثرتهن بالقارة العجوز أوروبا، لكني فوجئت بذات يوم أنها تدرس الدكتوراة مثلي. وهنا كان لا بدّ من التقدم خطوة لأسألها ماذا تفعل بين القاعات وبيدها رزمة من كتب؟. وجمعت كل ما لدي من شجاعة وتقدمت لحضرتها بالسؤال اللطيف - بعد تبادل تحيات المساء وأمنيات النهار السعيد. وكانت المفاجئات المتتالية.
ابتسمت بخبث وقالت؛ وماذا تفعل انت هنا أصلا! ، فسردت باقتضاب الخائف نصف قصة حياتي بدقيقة، فابتسمت ثانية وقالت؛ انا بروفسورة في قسم التسويق الرقمي بكلية الأعمال بذات الجامعة. وقامت بابراز كرت التعريف الشخصي خاصتها عندما قرات بسرعة خاطفة قسمات وجهي المكذب لحديثها. لم أتردد أن أشاهده، وفعلاً كانت كما قالت، تحمل درجة الأستاذية في التسويق، لكنه ليس الرقمي. وهنا كان جوابها الثاني.
فقالت؛ ولأن العالم تحول الى الحالة الرقمية، والحداثة بالبرمجيات، وجدت نفسي لا أستطيع مواكبة زملائي الأصغر مني سناً، ولا كذلك تطوير طلابي، ولم أستطع تطوير نفسي بجهدي الذاتي، فقررت الإلتحاق ببرنامج دكتوراة التسويق الرقمي. فقلت بنفسي وماذا بقي لها من العمر، لكني لطفت السؤال بصيغة أقل وقعاً على هذا الكائن الهرموني الغريب، لكيلا يهجم علي بنظراته الشزراء، فقلت وماذا عن سن التقاعد؟ فابتسمت وقالت؛ بقي خمس سنوات عنه. فعرفت أن عمرها ٦٥، لأن عمر التقاعد للأساتذه في هنغاريا هو سن السبعين، واردفت تقول، والمتبقي طويل، اي الخمس طويلة. (ما اوسع فسحة الأمل لديها).
فتراجعت مندهشاً، متعجباً من هذا الجبروت الصارخ، والتحدي الملّح لطلب العلم على ضعف الشيخوحة، وبدت على وجهي مئة علامة استفهام لا جواب لها. وبنفس الوقت الف علامة إعجاب وتعجب.
واسترسلت الدكتورة تقول؛ إنني اتقن قيادة الكمبيوتر، وبرامج الاحصائيات المشهورة، وتطبيقات التسويق الاليكتروني، لكني غير قادرة على تدريسها لطلابي، فأردت ان اجاز بها بشكل لا يقبل أي تشكيك. فتعجبت من أمانة التدريس لديها، ونقل المعلومة بصدق وثقة. ولم تنته سلسلة التعجب بعد.
وكأي عربيّ فضوليّ؛ سألتها السؤال الأقوى العابر للقارات، بعدما التقطت انفاسي، وهل انت متزوجة؟ فكان الجواب الأغرب؛ بنعم. وزوجي يقطن في بيتنا بالشارع المقابل لسكن الجامعة، ولكني حجزت سكن الجامعة ليومين بالاسبوع لأتمكن من القيام بفروضي الدراسية وواجبات دراستي بعيداً عنه - حيث أقابلك كل صباح ومساء. وهنا برز على ملامح وجهي اندهاش غريب يوحي بعدم التصديق، لكنها أكدت كلامها بقولها، فلديه ما يشغله أيضا، ونحتاج كلانا للتفرغ لأعماله الخاصة، فليست كل الحياة رغد ورفاهية واستمتاع. It is not all about Luxurious.
وأخيراً استأذنت الدكتورة للحاق بمحاضرتها التالية؛ وتركتني على حالي من الدهشة عجيب، دهشة البدوي الآت من قلب الصحراء الى لبّ الحضارة والتطور والابداع والمدنية ، بالكاد استطاع ان يقبل تغيير نمط حياته، فكيف يفهم هذا النمط الغريب؛ نشاط صبياني في جسد عجوز.
خلاصة القصة؛ جلست بعدها عدة ليالي أتفكر بمخرجات تلك المقابلة؛ ووجدت فيها الكثير من الدروس؛ جبروت سيدة، أمانة تدريس، واقعية حياة زوجية، طموحٌ حدّ الموت، وتحدٍ صارخ لمحددات العمر وضعف الجسد، ولكن بقوة روح شابة. إنها إحدى السيدات التي استطعن بشكل غير مباشر تشجيعي على الاستمرار بالدرب - كلّما يأست منى القوى، ولم ينجُ من جبروتها غروري وفضولي وطموحي.
د. أحمد - من كتابي؛ بين الأبيض والأسود.