الكيلاني يكتب .. قيامة الشهيد الغائب
الكيلاني يكتب .. قيامة الشهيد الغائب
زاد الاردن الاخباري -
لا تكفي واحدة، بل هي استعارات الغياب.
لأن غيبة الخالدين عن الانظار باختفائهم الخاطف ، لا تثقب خزان الذكريات ، بل تملؤه حنينا ، ووجدا ، و يكون الحضور ما وراء الفيزيائي او الملموس ،اعمق اثرا في النفوس
فعن اي غائب موضوع حديثنا ،،،و اي غياب ...؟؟
…أذِن الراحل
الحسين بناء على رغبة ، سعدية التل الجابري ، زوجة الشهيد رحمهما الله ، باخراج الجثمان من مدفنه في المقابر الملكية، وقد مضى على رقاده سنوات عشر ليتم نقل رفاته الطاهرة الى منزله الرابض على تلة في الكمالية .
،،،،تحين امام الاضرحة
الملكية تلك الفرصة ليلقي نظرة على الجثمان المسجى ، يطمئن بها قلبه، وتقر لها عينه، مصداقا ، للأثر :
( الانبياء و الشهداء لا تاكلهم الارض …)
نظر داخل النعش ليرى الجسد الطاهر مسجى على هيئته مغمض العينين ، لم يمسسه سوء .
ذلكم هو الشهيد وصفي التل.
سيرة التل تحمل الكثير من المعاني و الصور و المدلولات لما يوصف ب (فوق المعقول)
ولعل في هذه المقدمة ، اجابة موجزة ، على علامات التعجب التي نسمعها بين حين وآخر ،،
(لماذا النبش في قبور الاموات !!!)
(مرحلة وصفي انتهت وعدت ، ومضى عليها خمسة عقود ؟ماذا يجدي الحديث عنها اليوم )!!!!
هذا صحيح مائة بالمائة .
ولكن يقين المؤمنين بمشروع وصفي لن يتزعزع ، وحياته الابدية ستبقى يقينا للموقنين ، لن تنال منها شكوك المنكرين
،،،تفسير قدْر هذا الزعيم في الوجدان الوطني ، مهمة مستحيلة ، لا تتسع لها كلمات .
، قصة سردية واقعية مستمدة من حياته في جانب منها ، و فوق الواقعية، بعد مماته ، في جوانب عديدة اجتمعت كلها في شخصه.
، ما زال خياله يراود احلامنا !!! طيفه يزورنا يقظة، او شبه يقظة ، وخصبه يملأ التلال الحقول .
، وصف حقبته احد السياسيين الفلسطينيين قائلا ( لم يكن تأثير التل يغيب عن المشهد السياسي
الاردني حتى وهو خارج الحكم )
الا ان حضوره وتأثيره بعد استشهاده هو الأعجب ، صار ايقونة مقدسة ،
تضوع منها
رائحة دمه الزكي ، اريج مسك ، يهب من تلك التلة ، المظللة بالغمام صيفا وشتاءا ، تارة تجري الى هضاب البلقاء و تارة على جبال
عمان ، وتارة فوق سهول حوران .
تاسست وقفية وصفي وسعدية التل بعد وفاتهما في داره التي عشقها ، فلا تعجب ان زرتها وسمعت صوته مرحبا مؤهلا ، لا تعجب ان ترنمت على صدى قرع نعاله ،يفتح الابواب مشرعة على كل ركن وزاوية في دارته ، حتى يصل بك الى مكتبه الخاص ، و ارشيفه الخاص
وربما يهديك كرته الشخصي ، مدونا باسمه البارز ( وصفي التل ) بلا القاب ، وفي اسفله صندوق البريد ورقم الهاتف ، ان رغبت بالمراسلة او حتى الاتصال .
في مكتبه الخاص المطل على غابة من اشجار البلوط و السنديان المعمر ، رسم متخيل للامام
الحسين ، معلق في احدى الجداريات، ربما اهدي له اثناء عمله سفيرا للمملكة في
ايران ، لتحملك الذكريات طوعا من
عمان الى طهران، والى ذكريات لا تعرف النهايات ، حيث الغرفة المسماة بالخلوة
الملكية ، و ديوان عربي مسقوف بالعقد و الاقواس الاسلامية ، الصامدة ، رغم انها غير مسلحة بالحديد .
ليكتمل الغياب
: ، ( كلما اكتمل الغياب ، ،،
حضرت َفعانق الموت الحياة ، وعانَقْتْه كعاشقين )
واتَّحَدْتَ بها ، فلم تعرف يديها من يديك ، وانتما تتبخران ، كغيمة زرقاء ،لا تتبينان ، أأنتما جسدان ، ام ، طيفان ام ،،،) محمود درويش .
اذا،
من مكتبه الخاص ، و من خزائن الكتب الحائطية التي جمعت ، عشرات المصنفات في السياسة والفقه و تفسير القرآن ، و
القانون و التاريخ و الادب والصراع العربي الصهيوني ، و القضية
الفلسطينية ،ومئات الكتب المرصوفة على جدران المنازل ،
لا بد ان يكتمل الغياب ، ويقوم الشهيد ، ليحدثني عن مشروعه..فما هو مشروع التل ،،،
( الدولة الموثوقة المنيعة ) .
لقد وعدت القاريء بتناول جوانب من شخصية التل ، لم اعثر عليها فيما قرات او شاهدت ،،،وذلك في محاولة ،لاضاءة جوانب اخرى لهذه الشخصية الثرية بالفكر ، الغزيرة بالعطاء .
اولا : في الجانب الدعوي : عرض التل على احد الشخصيات الدينية الوازنة ، رؤيته الحداثية غير المنقطعة عن الاصول ،وقال ، انني اؤيد بروز نجوم جدد ، في المحال الدعوى . دعاة يخاطبون
الشباب و الشيب بهمومهم ، وأراد ان يكون لهم سقف عال من الحرية في المنابر .
وكانت الرؤية لديه تنطلق من تعزيز المصداقية للمسجد ومؤسسات الدعوة و التوجيه الديني ، وانها لا تقل اهمية عن حرية المنبر السياسي و الاعلامي . وفي
شاهد نادر ، حمل احد مدراء المخابرات ، ملفا موثقا لخطيب الجمعة في المسجد الحسيني التي بثت على الاذاعة الرسمية للدولة وفي تلك الخطبة انتقد الخطيب مهرجانااحتفاليا اقامته
الحكومة بعد هزيمة ٦٧. فاجأ التل مدير المخابرات بصوت جهوري صارم ، ( خليه يحكي اللي بدو اياه ، و لا تمنعوه من الخطابة )
وصف مشروع التل ، انه لم يكن معاديا للدين استقطب اسحق الفرحان ، لوزارة التربية و عهد اليه ، برئاسة
الجامعة الاردنية ، رغم جذوره التي لا تخفى .
لا باس اذا ، ان يكون هذا الرأي ايذانا بالاقلاع صوب سماء اكثر رحابة في جانب مسكوت عنه في المشروع الوصفي ،
فوصفي ، بنظرته التحليلة العميقة يدرك ان المجتمع
الاردني بغالبيته مجتمع مسلم ، وحتى الاخوة المسيحيون على اختلاف طوائفهم يعتزون ان تقاليدهم و عاداتهم الشرقية العربية الاصيلة ، هي
ابنة هذه البيئة .
كان التل يؤمن ان اسباب المنعة ، في الدولة ، تحتاج قيادات دينية موثوقة ، لدى الرعية ، لا تناهض الحكم العداء ، بل على العكس ، تجهر بالولاء للنظام الهاشمي ، و نقد الحكومات في هذا السياق هي رافعة شعبية للنظام نفسه، وليس ذلك توظيفا سياسيا كما يرى البعض ، لكنه نابع من ايمان عميق ونظر دقيق ، وتباعا ساسرح بقلمي يمر في رياض التل المونقة ولعلها خير
شاهد للشهيد .
ثانيا : في السياق التشريعي ، شكلت في عهد التل ،
لجنة تحضيرية ، لاعداد مشروع
القانون المدني الفريد المستمد من المذاهب الفقهية ، و استدعي لهذا المشروع الضخم ، فقهاء
القانون و الشريعة ، من اقطار عربية ، كمصر ، وسوريا ،وتراس
اللجنة المرجع القانوني الكبير بهجت التلهوني ،
لم يسعف دنو اجل التل، ان يقر
القانون في عهده ، فقد كان طلبه للشهادة التي نالها اسرع من عمل الفقهاء و جهدهم العظيم .
ولكن يسجل للفقيد ، انه دعم هذا المشروع وكان له الفضل ان تكون
المملكة اول
دولة عربية تقر قانونها المدني ، مستمدا من الفقة
الاسلامي و يتقدم على احدث الانظمة الوضعية ، لينظم المعاملات المدنية للرعية باحكام اصيلة تحاكي هوية المجتمع المسلم . وبما اتاح للقضاء فصل النزاعات واصدار الاحكام ، من وعاء تفسيري وثيق الصلة بقيم الامة و اخلاقياتها ، فلا تكون معاملاتها منقطعة عن جذورها الفقهية ، و لا عجب ان اختير هذا
القانون ، كنموذج موحد ، للقوانين المدنية في جامعة الدول العربية
ثالثا :
كان التل محاضرا في رجال الادارات الحكومية ، موجها ومستمعا و قضيته الاولى في اسباب المنعة ، تحصين ، الوجدان الشعبي ، من خطر العقيدة الصهيونية ، او ما اطلق عليه ، السرطان الساعي الى التمدد في جسم الامة ، وفي ذلك يقول الراحل عدنان ابو عودة ، (ان التل ، يعتبر اكثر الزعماء العرب ، فهما للعقلية الصهيونية )
لم يكمل مشروعه الوطني ، كما تخبر جملة من الشواهد ، لكنه حرصه على تحقيق المشروع كان يفوق التصور الى الحد الذي مكنه ان يهزم الهزيمة ، الهزيمة نفسها ،
بعد ٦٧ ، لتحتفل الامة باسترداد الكرامة ،في الحادي و العشرين من مارس ١٩٦٨.
رابعا : كان التل متنبها يقظا ، الى ان الخطر الداخلي ، لا يقل خطورة عن الخطر الخارجي ،
فمارس اقصى درجات النقد دونما تثريب عليه ، وكلمته الشهيرة ( الذين يعتقدون ان هذا البلد بلا عزوة واهمون ،الذين يتصرفون بما يخص
الاردن ، كانه جورعة مال داشر واهمون هم كالفئران الخائفة على سفينة ، سيغرقون كما تغرق الفئران ، وستبقى السفينة تمخر العباب وتصل الى شاطيء الامان)
مشروع دعوي ، و قوانين مستمدة من الفقة ، ونقد لاذع للحكومات ، وصراع وجودي مع الكيان الصهيوني ،،،
هل كان التل اسلاميا ؟؟
لا ، لكن التل
رجل دولة صاحب مشروع ورؤية ، كما تكلمت ُ في مقالات سابقة عن غيره الرؤساء ، فالاردن ولادة.
ونظامها السياسي ، ما قبل التحديث استوعب هذا التنوع ، ولا عليك ايها القاريء ان تجمح بخيالك لتتنبأ ، بالافضل و الاجمل بعد مسار التحديث
و السفينة ستبقى تمخر العباب ، وكلما غاب ربان من بني هاشم حضر
آخر ،
مسيرة لا تهاب ،فالثقة بمؤسسات الدولة هي الركن الركين
فمن رّوعته ديمومة الحياة
فليس لعلته دواء ، لان قيامة النهضة ، قدر محتوم و ارادة لاتلين وصرخة لن تسكت، في
دولة ستبقى تختار البسالة طريقا لبناء الثقة في الدولة المنيعة