شاهدت، قبل أيام، الفيلم الألماني النمساوي السقوط (Downfall)، من إخراج (أوليفرهيرشبيغل) 2004، والذي اعتبره النقاد من أقوى أفلام الحرب العالمية الثانية، لتقديمه سرداً مؤثراً وواقعياً للشخصيات الحقيقية لحاشية هتلر أدولف من مستشارين وسكرتاريا وحرس وأطباء وطهاة، عشية سقوط (برلين) أمام زحف جحافل القوات الروسية، مسلطاً الضوء على مخاوفهم وشكوكهم التي كشفت عن الصراعات النفسية والأخلاقية التي واجهها هؤلاء الأفراد في ظل الهلاك الوشيك. وقد أدى الممثلون أدوار هذه الشخصيات بشكل مذهل، ونجح المخرج في تقديم العمل بحرفية عالية، مستنداً إلى مذكرات سكرتيرة أدولف هتلر الشخصية (تراودل يونغ) في الأيام العشرة الأخيرة لحكمه لألمانيا وسقوط أسطورة الرايخ الثالث.
والمشاهد لهذا الفيلم المشحون بالمشاعر المختلطة لشخوص القصة يعيش واقعية المصير القاسي لأدولف هتلر وأعوانه، ويظهر طبيعة الإنسان الهشة، محفزاً إيانا لممارسة التأمل العميق وتحليل سلوك وخيارات الإنسان التي يتخذها أوقات الشدة.
ولا يمكن لنا أن نحلل التغيرات النفسية لهذه الفئة التي وجدت نفسها متورطة في الجريمة: إما فاعلة أو مراقبة لواحدة من أكبر مجازر التاريخ دون الرجوع لكتاب «رجال عاديون» لكريستوفر براوننغ، الذي يطرح فيه قضية جدلية تتعلق بالأخلاق والمبادئ الإنسانية ويقدم تحليلاً عميقاً لفهم الطبيعة البشرية لأناس عاديين يتحولون إلى قتلة ومجرمين، ويورد مثالاً وحدة الشرطة الألمانية المعروفة باسم (الشرطة الاحتياطية 101) والتي تم تشكيلها لتنفيذ حملات الإبادة الجماعية في بولندا العام 1942 إبان الحرب العالمية الثانية.
ويكشف الكتاب عن تحولات في طبيعة النفس البشرية والتأثير القوي الذي تلعبه الظروف الخارجية، فأفراد (الشرطة الاحتياطية 101) هم أفراد عاديون جداً، من ذوي الأسر ذات الدخل المحدود والوظائف البسيطة تم تجنيدهم ليقوموا بممارسة القتل دون رحمة.
وتناول الكتاب التحديات النفسية والمعنوية التي واجهها أفراد هذه الوحدة أثناء تنفيذ المهام القمعية والإرهابية، من خلال بحث دقيق وتحليل عميق لسلوكهم، مشيراً إلى مَيل الأشخاص العاديين للقيام بأعمال شريرة بصورة غير متوقعة. ويعزز هذا الكتاب فهمنا للتأثير الكبير الذي يمكن أن تمارسه الظروف الخارجية على سلوك الأفراد، مستدعيا منا إلقاء نظرة فاحصة في هذا الشأن.
يمثل فيلم «السقوط» وكتاب «رجال عاديون» تجربتين ثقافيتين مهمتين تسلطان الضوء على الجوانب الإنسانية عبر التاريخ، وتحثنا على سبر أغوار طبيعة النفس البشرية والقوى التي تصيغ تصرفاتهم وتحدد خياراتهم، وتذكرنا بأهمية الوقوف ضد الظلم والقمع، وأن نبقى يقظين وحذرين في مواجهة التحديات التي تهدد قيمنا الإنسانية المشتركة.
وبينما نعيد قراءة هذه القصص، تتاح لنا الفرصة للتفكر بتداعيات الماضي على حاضرنا ومستقبلنا، لنقوم بدراسة حذرة لخياراتنا، والقيم التي نتمسك بها، والإجراءات التي نعتمدها في حياتنا الشخصية، فمن خلال استكشاف أعماق النفس البشرية وتأثير الظروف التاريخية، يوفر «السقوط» و»رجال عاديون» فرصة للتأمل والتعاطف والالتزام المتجدد ببناء عالم خال من ظلال الماضي القاتم.
ففي عالم يتسم بقدرته على إعادة تشكيل مصيرنا الجماعي، تعد هذه الأعمال السينمائية والأدبية شاهداً على ضرورة فهم واحتضان التعقيدات الإنسانية المشتركة لدينا، وهذا يذكّرنا بمسؤولياتنا تجاه استنتاجات الماضي وسعينا نحو مستقبل يستند إلى الرأفة والعدالة والالتزام الثابت بالسلام.
قال المروذي: لما سجن أحمد بن حنبل، جاءه السجان فقال: يا أبا عبدالله: الحديث الذي روي في الظلمة وأعوانهم صحيح؟ قال: نعم، قال السجان: فأنا من أعوان الظلمة؟ قال له: أعوان الظلمة من يأخذ شعرك ويغسل ثوبك ويصلح طعامك ويبيع ويشتري منك، أما أنت فمن أنفسهم.