كنا سابقا نعيب على الذين هاجروا هجرتهم، برغم معرفتنا ان هجرتهم أو غربتهم في الأغلب لم تكن برضاهم، لكننا وصلنا إلى زمن بات فيه الكل يريد أن يهاجر أو يغترب بحثا عن النجاة.
هناك شعوب عربية هاجرت مبكرا، ومنذ زمن الوجود التركي في البلاد العربية، مثل السوريين واللبنانيين والفلسطينيين بشكل خاص، حيث نجد اليوم الملايين منهم في كل مكان، وهجرة هؤلاء كانت منذ 100 عام وأكثر، ومعهم المصريون والعراقيون واليمنيون، ثم أبناء المغرب العربي، الذين هاجروا الى فرنسا تحديدا ودول ثانية في أوروبا الغربية، وروسيا.
الهجرات ليست حكرا على العرب، إذ أن عدد الأتراك مثلا في المانيا يتجاوز الثلاثة ملايين، كما أن عدد العرب من المهاجرين القدامى كبير جدا، وهم يحملون جنسيات تلك الدول، وثورات الربيع العرب، والتعسف والظلم والفساد والفقر، زاد من حدة هذه الهجرات، وهي نوعان، احدهما دائم كليا، يؤدي الى حمل مواطنة البلد الجديد، والثاني يقترب من مفهوم الاغتراب المؤقت.
هجرة الأردنيين في أغلبها تقترب من نموذج الاغتراب المؤقت، إذ إن أغلب الأردنيين الذين يعيشون خارج الأردن، يعودون إلى الأردن كل سنة أو سنتين، في الصيف أو مناسبات ثانية، وهجرتهم ليست قسرية، ولا بفعل عوامل سياسية وأمنية طاردة، بل بسبب الرزق، وهذا يعني أن هجرة الأردنيين في أغلبهم جاءت متأخرة مقارنة بغيرهم.
إذا كنا نعتبر الاغتراب نوعا من الهجرة المؤقتة فإن الأردن يتحول تدريجيا إلى النموذج اللبناني، أي دولة الحوالات، حيث تساعد الحوالات الشهرية في الإنفاق على بيوت كثيرة، وهناك أكثر من مليون مغترب أردني في العالم موزعين على 70 دولة، 70 بالمائة منهم في دول الخليج العربي، ومحاولات الهجرة المؤقتة، وحتى الدائمة إلى الولايات المتحدة وكندا واستراليا ودول ثانية مستمرة، بما يعني أن أرقام الأردنيين المغتربين مؤقتا، أو المهاجرين كليا في الخارج، سوف ترتفع، وهذا يعبر عن أزمات وانسداد اقتصادي، وتفريط بالموارد البشرية.
ما من أردني في الخارج إلا ويرسل مالا قليلا أو كثيرا لأحد هنا في الأردن، وحوالات الأردنيين العاملين في الخارج تراجعت بنسبة 2.4 بالمائة خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الحالي 2023 على أساس سنوي، مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي، ووفقا لبيانات صادرة عن البنك المركزي بلغت حوالات العاملين في الخارج بنهاية شهر 4 الماضي 1.103 مليار دولار، نزولا من 1.132 مليار دولار خلال الفترة المقابلة من 2022، وقيمة الحوالات تتجاوز الثلاثة مليارات دولارات سنويا، وهي أموال تشارك في التنمية الاقتصادية، وتدخل بيوتا كثيرة.
لكننا لسنا وحدنا في هذا المشهد، وبين يدي تقرير صادر عن البنك الدولي يشير إلى أن الهند كانت أكبر دولة مستقبلة للتحويلات المالية في العام 2022، إذ قام العاملون الهنود خارج البلاد بتحويل ماقيمته 111 مليار دولار، ثم جاءت المكسيك بالمركز الثاني بحجم تحويلات بلغ 61 ملياراً، ثم الصين بنحو 51 ملياراً، والفلبين بـ38.05 مليار، وفرنسا بـ30.04 مليار، وباكستان بـ30 ملياراً، في حين جاءت مصر بالمركز السابع عالمياً والأول عربياً من حيث أكثر الدول المستقبلة لتحويلات الوافدين بحجم تحويلات بلغ 28.33 مليار دولار، وهذا يعني أن أعداد المغتربين أو المهاجرين من هذه الدول كبير جدا، برغم الموارد المتوفرة فيها.
الارتباط العاطفي بالعائلات والأوطان لا ينتهي بسبب الاغتراب والهجرة، لكنه بالتأكيد يتضرر أو يتأثر، خصوصا، على الصعيد الثقافي والاجتماعي والديني، حيث يواجه المغتربون أو المهاجرون كليا إلى دول غربية، أزمات بشأن أطفالهم، وطريقة تربيتهم وحقوقهم، ويلاحظ دوما، أن مغتربين أو مهاجرين يقومون في سن معينة من عمر أطفالهم بإعادتهم إلى الأردن لتربيتهم هنا خوفا عليهم من التغيرات التي لا يمكن احتمالها لأسباب ثقافية أو اجتماعية أو دينية، خصوصا، مع التحولات الجارية هذه الأيام والتي تهدد بصدام حاد بين الثقافات.
الاغتراب المؤقت أرحم بكثير من الهجرة الدائمة، وإذا كان للاغتراب المؤقت كلفته على الإنسان، فأن كلفة الهجرة الدائمة أكثر حدة، لكن المقيم في بلاده يقول لك إن أسوأ أنواع الاغتراب هو اغترابك وانت في بلدك، حيث لا فرص ولا حياة كريمة.
هذه هي إكراهات الحياة أيها القوم.. وهذا ماوصلنا اليه