عادة ما تستجيب العامة لما تريده السلطة، فالدولة تستطيع من خلال نظرتها وأفكارها وبرامجها وإعلامها أن تسير الناس كيفما تشاء، فالدولة تستطيع أن تصنع من شعبها مجتمعاً صناعياً منتجاً كما حدث في كوريا الجنوبية، كذلك الدولة تقدر على صناعة شعب مدجج بالأفكار الدعوانية والرغبة في القتال وكراهية الآخر، مثلما يحدث في إسرائيل وإيران.
لكن الإختلاف بين الخيارين أن المنتج العدواني أو الأقل وعياً والأكثر بدائية لا يمكن أن تتنبأ بماذا يفعل في زمن الفوضى، بينما تستطيع المجتمعات الواعية والمتعلِّمة أن تتعامل مع أسوأ ظروفها الإقتصادية أو السياسية بحكمة وحذر، ولهذا يظل خيار الإستثمار في التعليم والعمل الطريق الأقصر نحو مجتمع السلم والرفاهية.
عربياً نجح الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة في توجيه المجتمع إلى التعليم، وكانت النتيجة مجتمعاً ميالاً للسلم، ويطمح في العيش في أجواء أكثر حرية ومسؤولية، بينما لم تخلف عدوانية وفوضى الزعيم القذافي إلا مجتمعاً أقرب لحالة البدائية والعدوانية، فكانت النتيجة حرباً أهلية لا تتوقف، وحطبها أولئك الذين تُركوا بلا تعليم أو تدريب، فعادوا بسبب سياسة التدجين إلى مجتمعات قبلية محاربة .
لطالما تساءلت ماذا لو أسس القذافي عندما تسلَّم الحكم في 1969 ميلادية دولة حديثة لها دستور وتحكمها القوانين والديموقراطية، ثم سلّمها في آلية ديمقراطية سلمية إلى خلفه كما فعل نيلسون مانديلا، ثم راقب نموها وتطورها عبر العقود، فهل ستكون نهايته مثلما شاهدناها على الشاشات، أم سيكون خالداً في ذكرى ووجدان كل مواطن ليبي إلى الأبد.
لم يختلف الوضع كثيراً عن بعض الدول العربية، فترويض العوام في سبيل خدمة أهداف النظام العدوانية نجح بإمتياز، وكانت النتيجة مجتمعاً عدوانياً، لا يتقن السلام، ويرغب في الانتقام، وكان السبب فشل مشروع الدولة في إخراجهم من طور العدوانية إلى أطوار أكثر تحضراً وإنسانية، فكانت النتيجة كما نراقب يومياً على شاشات المتلفزة، مشاهد من العنف والإنقسام.
قد تنجح السلطات في ترويض الشعوب من خلال الأساليب البدائية، لكنهم لا يمكن أن تشفيهم من لوثة الجنون أو الميل نحو الخروج عن النص كما حدث في بعض دول الشمال العربي، لكنهم يستطيعون أن يخرجوهم من اللوثة مبكراً إذا تم تطوير إمكانات المجتمع، وتطويع مهارات أفراده من خلال ثنائية التعليم والعمل، وبكلمات أخرى، يتحول الفرد إلى كائن مسالم إذا تطور وعيه في الحياة، وكان له مكتسبات يخشى التفريط بها.
يكاد يخلو تاريخ العرب الحديث، قبل زمن الربيع أو زمن الخريف العربي، من شخصية في قامة المهاتما غاندي أو عقلية الرئيس نيلسون مانديلا أو شارل ديغول أو جورج واشنطن، فقد كان الهوس بالسلطة والتسلط عاملاً مشتركاً في بعض دول العرب، وكانت حالة بعض الزعماء العرب كارثية حين كانوا يتصرفون ببدائية وسذاجة وأنانية مفرطة..
تحتاج الشعوب العربية إلى تجربة تنموية ناجحة في إحدى دول الجوار، وذلك ليكون مثالاً يُحتذى به في تاريخ العرب الحديث، والأمل معقود على دول الخليج العربي، وبالأخص بلادنا العزيزة، فالفرص في كثير من الأحيان لا تعود مرة أخرى، والعوامل في الوقت الحاضر مهيأة أكثر مما مضى للخروج من طور إلى آخر، ولو نجحت بلادنا في التقدم نحو دولة تنموية وصناعية قوية في المنطقة، سيكون تأثيرها كبيراً على دول المنطقة، وستكون آثار التغيير في غاية الإيجابية على المجتمع والفكر والوعي، فهل نكون في الموعد!
الدكتور هيثم عبدالكريم احمد الربابعة
أستاذ اللسانيات الحديثة المقارنة والتخطيط اللغوي