المهندس مدحت الخطيب - لم يكن فجر الخامس عشر من أيلول يوما كبقية الأيام ولن يكون، فيه من المرارة والفقد والحسرة والألم ما لا تحمله الجبال، فأنا المتعب طوال اليوم السابق، المتنقل بين عيادات الأطباء وأجهزة الرنين المغناطيسي، الهارب من شدة آلام حصوات الكلى، ومن جرب مرارتها يعلم عن ماذا أتحدث.
في ذلك الوقت قرر الطبيب أن يجري العملية بالسرعة الممكنة فرفضت وغادرت المستشفى إلى طبيب آخر مع أن الطبيب لم يخطئ في حقي ولكن ترتيب القدر جعل الخلاف يحدث لكي أودع أمي وأشارك في دفنها.
خرجت مسرعا إلى الطبيب صديق عمي وعندما شاهد التقرير وصور الأشعة، قرر أن تكون العملية بشكل مباشر لأن الحصوة أغلقت الحالب بشكل كامل فترددت واتفقنا أن تكون في صباح اليوم التالي ،أي صباح الخامس عشر من أيلول،..
عند المساء كان الاتصال الأخير تحدثت معها مطولا وعلى غير عادتها لم تتحدث عن العملية ولم توصني كعادتها فهي تبكي (على الطير الطاير أن أصابه مرض) فكيف بابنها ودعتني بكلمة استودعك الله يمه وهو أرحم الراحمين،
بعدها صليت العشاء وجهزت نفسي والتقارير لإجراء العملية عند الساعة العاشرة صباحا وتوجهت بعدالساعة الثانية عشرة منتصف الليل لكي أنام، إلا أن الألم والتفكير أفقدوني طعم النوم وبقيت ملتفتا منتظرا متقلبا قلقا وعقارب الساعة تمشي على مهلِ واقول في صمتي ما العمل!!!!
كانت الساعة تقترب من السادسة صباحا عندما رن الهاتف على غير عادته، نظرت بصعوبة الى رقم المتصل وكنت مشوش الرؤية والفكر واذا بالمتصل أخي حيدر !!!!!
لحظة مرت وكأنها عام وانتفض بعدها الصمت، فتحت الهاتف في يدي اليمين وهي ترتجف وانطلقت يدي اليسرى من تلقاء نفسها إلى مكان الألم، ولم أسمع إلا صوت حزن وانكسار يقول أمي ماتت يا أبا خالد أمي ماتت خيوه!
أدرت بصري إلى زوجتي وأولادي المرعوبين من هول الخبر ونطقت بكلمه واحدة امي ماتت، الجدة الحجية ماتت يا خالد، ولم أذكر بعدها ما حدث.
اوصلوني إلى اربد وجسدي دون ملامح محددة وعقلي شارد ما بين الحلم والحقيقة، ثم انهمرت في بكاء لم يعهده قلبي من قبل، وتوالت بعدها علينا جميعا الانكسارات إلى يومنا هذا.
قيل يظل الرجل طفلا حتى تموت أمه فإذا ماتت شاخ فجأة «، لكن ماذا أقول؟ إن كان ذلك الطفل المخبأ في جسد رجل في ظاهر ملاحمه التحمل والصبر والشدة وداخله طفل يفرح بقبلة أمه وبسمة أمه ويتلذذ في مخارج حروف ما تقول،
بين اللقاء والفراق، تحولت حياتنا وانقلبت رأسا على عقب، بالأمس كنت أعيش أميرا في مملكة أمي واليوم أعيش كلاجئ ليس له وطن ولا عنوان.
عند وصولي إلى المستشفى لكي ألقى نظرة الوداع العابرة عليها- رحمها الله- كانت خطواتي مثقلة خوفا على روحها الطاهرة عندما تشاهدني، فيروعها منظري، فملامح الانكسار نضجت بسرعة وانكسرت أول دعامات صبري ورباطة جاشي، فمن كانت تضفي علينا كل يوم حنانا ودلالا ها هي الآن دون حراك، جسدا مسجى وروحا تبتسم، ونفس راضية مرضية عادت إلى ربها بكل هدوء ووقار وسكينه.
رحلت أمي وأخذت معها الحنين والحنان، رحلت أمي منذ ذلك الصيف الماطر حزنا الموجع قلبا الموحش عيشا،و المقفر أرضا.
رحلت أمي وأخذت كل شيء، فيا أطيب الأهل روحا ضمه بدن أستودع الله ذاك الروح والبدن
عليك وعلى أمواتنا جميعا يمه رحمة الله ولا نقول إلا ما قاله سيد البشر في وداع ابنه إبراهيم -رضي الله عنه- وهو يجود بنفسه، «إن العين لتدمع وان القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون».