كانت المملكة العربية السعودية تراقب بصمت ما يجري منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي ترامب ما تسمى صفقة القرن و جر دول عربية للتطبيع مع الكيان الصهيوني فيما يسمى (السلام الإبراهيمي) وخصوصاً أنها كانت متورطة بحرب اليمن و تتعرض لتهديد حقيقي من طرف الحوثيين الذين قصفوا بالصواريخ والمسيرات مواقع حيوية في داخل البلاد، كما كانت مشتبكة في خلافات حادة مع قطر التي هددت زعامتها عربياً واسلامياً وحتى داخل مجلس التعاون الخليجي، أيضاً كان ولي العهد محمد بن سلمان منشغلاً بترتيب البيت الداخلي في العائلة المالكة وموروثها التقليدي الديني والثقافي الذي كان يحد من تطلعاته نحو الانفتاح على العالم.
وجاءت حرب أوكرانيا وتداعياتها على المنطقة ومحاولة روسيا والصين مد نفوذهم والتقرب من بعض دول المنطقة وخصوصاً الرياض، لتمنح ولي العهد فرصة لتستعيد المملكة بعضاً من هيبتها ومكانتها وكانت الخطوة الأولى إعادة العلاقة بين المملكة وإيران بوساطة الصين والتقارب السعودي التركي، والمصالحة في إطار مجلس التعاون الخليجي ومساعي انضمامها لمجموعة بريكس، ومع ذلك لم تخرج المملكة من تحت العباءة الأمريكية والغربية بالكامل حيث العلاقات الاستراتيجية التاريخية على كافة المجالات من الصعب تجاوزها بسهولة.
تزامنت هذه المستجدات في السياسة الخارجية مع ما يشبه الثورة الثقافية والاجتماعية والدينية قادها ولي العهد للتحرر من إرث كان يعتبره سبباً في المشاكل التي تعانيها المملكة وسببا في استطاعة دول صغيرة كقطر والإمارات منافستها وإنجاز تطورات مهمة داخلياً وخارجياً، ونتيجة هذه (الثورة) الداخلية انفتحت المملكة في كل المجالات بما فيها المجال الديني والثقافي الذي كان يشكل أه عائق أمام المملكة وتطبيعها مع إسرائيل.
التقارب السعودي الإيراني برعاية صينية في مارس الماضي لم يقلق واشنطن وتل أبيب كما لم يقلقهم تعيين المملكة سفيراً فوق العادة ومفوضاً (غير مقيم) لدى فلسطين وقنصلاً عاماً في مدينة القدس وزيارة وفد سعودي كبير يترأسه السفير لرام الله الشهر المنصرم ، لأنهما يدركان أن ذلك تمهيد للتطبيع مع إسرائيل خصوصاً أن السعودية كانت مقابل هذه الخطوات التقاربية مع ايران والفلسطينيين تتخذ خطوات إيجابية مع الإسرائيليين كفتح المجال الجوي أمام الطيران الإسرائيلي واستقبال وفود إسرائيلية ووزراء في المملكة وتصريحات إيجابية كانت تصدر عن مسؤولين سعوديين حول التطبيع .
كما أشرنا في مقال سابق، إن التطبيع قرار سيادي لكل دولة والفلسطينيون في وضعهم الراهن لا يستطيعون إيقاف قطار التطبيع، ولكن التطبيع السعودي يختلف عن تطبيع بقية الدول نظراً للموقع الديني الذي تحتله المملكة، فإن تُطبِع السعودية مع دولة الكيان العنصري الصهيوني الذي يحكمه تحالف يميني عنصري يقول بأن الضفة هي يهودا والسامرة وأن القدس هي أورشليم ولا يعترف بأي شرعية دينية وتاريخية للفلسطينيين والعرب والمسلمين في فلسطين والقدس، فهذا معناه قبول الرواية اليهودية الصهيونية لأن الاعتراف السعودي بإسرائيل هو في نفس الوقت الاعتراف بحكومتها وبرنامجها، هذا يعني أن التطبيع لم يعد تابو أو مجرم ديني عند المسلمين، وبصيغة أخرى سيكون تطبيعاً بين مكة عاصمة العالم الإسلامي و(أورشليم) عاصمة الدولة اليهودية.
نعم، نحن أمام تطبيع له بُعد ديني وهناك سوابق لهذا التطبيع، فقد صمت الأزهر الشريف في مصر عن التطبيع وتوقيع اتفاقية سلام، والأزهر هو المرجعية الدينية لغالبية المسلمين السنة بعد المملكة السعودية، وتم التطبيع مع الأردن راعية الأماكن المقدسة وكان الملك حسين بن طلال يقول إنه من سلالة الدوحة الهاشمية وسبط الرسول الاعظم، كما طبعت تركيا وعززت علاقاتها مع الكيان اليهودي الصهيوني في ظل حكم أردوغان (خليفة المسلمين) وحزب العدالة والتنمية ذو التوجهات الإسلامية، وطبعت مع إسرائيل والمملكة المغربية على رأسها ملك حسب الدستور (أمير مؤمنين، إلا أن التطبيع السعودي يختل.
إن كل ما يُقال أن المملكة تريد التطبيع مع الكيان الصهيوني لأنها بحاجة للسلاح المتطور والتكنولوجيا النووية واتفاقية دفاع مشترك مع واشنطن الخ هو جزء من الحقيقة لأن هذه الأمور متوفرة في دول أخرى ويمكن الحصول عليها بما للمملكة من إمكانيات مالية بدون أن تضطر للتطبيع مع إسرائيل. فلماذا لم تحصل على ذلك من قبل وهي الحليف الاستراتيجي لواشنطن والغرب؟ وفي مواجهة مَن هذا السلاح وقد تحسنت علاقتها مع إيران؟ كما أن الحديث يدور عن مفاعل نووي سلمي يخضع بالكامل للإشراف والإدارة الأمريكية كما هو الأمر بالأسلحة المتطورة؟ وحتى لو امتلكت الرياض سلاحاً نووياً فهل ستضرب به إسرائيل النووية؟ وهناك نموذج القنبلة النووية الإسلامية الباكستانية التي لم تنفع باكستان حتى في صراعها مع عدوها اللدود الهند. أيضاً لماذا لا تأخذ الرياض التكنولوجيا النووية من أوروبا أو من باكستان الإسلامية أو من الأصدقاء الجدد روسيا والصين حيث بالغ البعض في تفسير التقارب مع هاتين الدولتين بأنه تحول استراتيجي في السياسة الدولية للرياض؟
الوجه الآخر من الحقيقة هو شخصية ولي العهد وقناعاته الشخصية بعدم جدوى استمرار القطيعة مع إسرائيل وخصوصا في ظل ضغوط أمريكية هائلة على المملكة للتطبيع لإدراك واشنطن بأن مشروع الشرق الأوسط الجديد وما يسمى (السلام الابراهيمي) لن يتقدم في ظل وجود الحاجز الديني بين اليهود والمسلمين وإزالة هذا الحاجز بيد المملكة.
ومع ذلك ستطبع المملكة مع الكيان حتى بدون الحصول على كامل مطالبها من واشنطن أو تطبيق مبادرتها للسلام، وسيكون الفلسطينيون شهاد زور على التطبيع بين مكة وأورشليم، وهو التطبيع الأول الذي تأخذ فيه الدولة المُطبعة موافقة فلسطينية رسمية مسبقة.
وعود على بدء، فعلى الرغم من أن القضية الفلسطينية والقدس لم تعد قضية العرب والمسلمين الأولى وقطار التطبيع سيواصل سيره، إلا أن واشنطن ودولة الكيان تعلمان أن هذا التطبيع حالة غير مستقرة لأنه تم رسمياً مع دول غير ديمقراطية وأوضاعها غير مستقرة، وأنه لا يمكن تجاوز حقيقة وجود 14 مليون فلسطيني نصفهم داخل فلسطين وعددهم يفوق قليلاً عدد اليهود والنصف الآخر في الشتات ما زال غالبيتهم يحملون الهوية والجنسية الفلسطينية ويتعامل معهم العالم كفلسطينيين، وما لم يوجد حل سياسي يرضي عنه غالبية الشعب الفلسطيني فسيكون ( السلام الابراهيمي) مجرد سراب، وستكتشف الشعوب العربية أنه مقابل تسامحهم الديني ومرونتهم السياسية مع الصهاينة إلا أن هؤلاء الأخيرين ليسوا صادقين في السعي للسلام ولا يحترمون أصحاب الديانات الأخرى ولا الشعوب الأخرى .
Ibrahemibrach1@gmail.com