هذه الكلفة الأمنية تتعلق بالموقف الانحيازي الكامل والأعمى لصالح إسرائيل بذريعة تعرضها لعملية السابع من تشرين الأول، وهذا الانحياز لم يخرج ليعترف بمسؤولية الاحتلال عن محاصرة غزة لأكثر من 16 سنة، ولا ألاعيب إسرائيل فيما يسمى عملية السلام، واستحالة إقامة دولة فلسطينية، وفقا للمشروع الإسرائيلي، ولا خرج ليفصل بشكل محدد وواضح بين المقاتلين في القطاع، والمدنيين في القطاع، بل سمح بالانتقام من المدنيين وحرقهم أحياء، وفوق كل ذلك تتوالى زيارات كبار المسؤولين الغربيين إلى إسرائيل تعبيرا عن دعمهم للاحتلال.
من ناحية تحليلية أغلب الدول الغربية يعيش بها ملايين العرب والمسلمين، وفي مناخات الإسلامفوبيا، والكراهية، والعنصرية، الموجودة أصلا، وما شهدته المنطقة من تدخل وحروب سابقة، واستعمار، واحتلالات، وما نشأ عن حروب المنطقة من ظهور التنظيمات المتشددة التي رفعت شعارات راديكالية ضد الدول الغربية، فإن انتقال المواجهة والتصعيد إلى دول غربية يبدو واردا من باب الانتقام، على ضوء موقف الدول الغربية من عدوان إسرائيل على الغزيين.
ربما هناك بعض الدول التي أدركت هذه الكلفة، وبعد أن كانت متشددة ضد مظاهرات ومسيرات العرب والمسلمين، والمتعاطفين مع فلسطين، بدايات الحرب، عادت وسمحت بها بشكل متحفظ، لمعرفتها أن بنيتها الداخلية منوعة من حيث الأصول والأعراق والأديان، وأنه ليس من مصلحتها خلخلة استقرارها الداخلي، على هذه الأرضية، خصوصا، أن أخطار التنظيمات المتشددة، وما يمكن أن تفعله الذئاب المنفردة بحاجة إلى تقييم عميق داخل هذه الدول، التي عانى فيها الأبرياء أيضا من ممارسات سيئة تم نسبها إلى الإسلام وأهل هذه المنطقة.
هذا يعني أن مراكز القرار السياسي والأمني في الغرب يجب أن تتنبه إلى الكلف الأمنية الداخلية لديها على خلفية هذا الانحياز الكامل لإسرائيل، حتى لا تدخل هذه الدول شريكة بشكل لا يمكن احتماله، فوق الشراكة القائمة أصلا مع إسرائيل، على مستويات مختلفة، وهذه الكلفة الأمنية قد تتنزل عليها من جانب مواطنيها الذين يعودون إلى أصول عربية ومسلمة، وقد تتنزل من جانب تنظيمات متشددة داخل هذه الدول، أو عبر ضرب مصالحها في العالم.
الدول الغربية بما فيها الولايات المتحدة تعطي إسرائيل رخصة مفتوحة للقتل، ويقومون في الوقت ذاته بتأمين المدنيين بالطحين والأرز والسردين والمعلبات، وكأن المقصود أن يموتوا وهم غير جوعى، في معيار أخلاقي جديد، يكشف حجم البشاعة التي نعيشها في هذا العصر، وكأن مشكلة الفلسطينيين هي الطرود الغذائية، وأغطية الصوف مع اقتراب الشتاء، في مشهد لم أر مثله في حياتي، حين يتم تغييب القصة الأصلية، أي جرائم الاحتلال، لصالح قصص بديلة وفرعية، وبحيث يسكت العالم على انتقام إسرائيل من الأبرياء في غزة، فيما تنطلق نداءات الإغاثة الإنسانية للتغطية على الدم المسفوك.
سوء الفهم بين العرب والغرب، ليس جديدا، إذ له جذوره، وهو يتجذر أكثر على خلفيات الهويات الوطنية للمنطقة والهوية القومية العامة، وفسيفساء الهويات الفرعية، وخريطة النفوذ السياسي، وخرائط الثروات، وصراع الأمم والدول الكبرى على النفوذ فيها، إضافة إلى ما يعنيه الدين من حيث تأويلات البعض، للعلاقة مع الغرب، بما أحدث فرقا اجتماعيا وثقافيا، عززت الفروقات العلمية منه، وجعلت العالم، وكأنه ينقسم بين مجموعتين في تعزيز لصراع مكلف.
هذه ليست حربا ضد التنظيمات، هذه حرب ضد الفلسطينيين، ووجودهم التاريخي في كل فلسطين، وإلا بماذا نفسر هذه الحرب ضدهم حتى قبل ظهور تنظيمات غزة، وقبل تأسيس إسرائيل عام 1948، وما تلا ذلك، وهذا يعني بشكل واضح أن الدول الغربية تحديدا عليها أن تراجع مواقفها، وأن تدين الاحتلال الذي يقصف كل شيء، وأن توقف الحرب، وأن لا تتورط في سيناريو يعزز الأحقاد والكراهية بين الأمم، أي العرب والغرب، ويرتد أمنيا داخل هذه الدول.
الفلسطينيون لا يريدون طحينا من الغرب المتمدن، فلا فرق بين من يستشهد وقد تناول العشاء، او استشهد وهو جائع أيها السادة الكرام في كل مكان.