الحروب بشعة وسيئة مهما كانت أسبابها ومسوغاتها. أشد ما يؤلم فيها التكلفة الإنسانية التي يتكبدها المدنيون والضعفاء من أطفال وشيوخ ونساء. الدول التي حباها الله بقيادات حكيمة هي التي تتجنب الحروب وتحاول حل مشاكلها دون خوضها. الدول تجهز نفسها ليوم الحرب للدفاع أمام الاعتداءات، وتنفق الأموال الطائلة لتجهيز جيوش قد تحتاجها في يوم ما، وهذا يكون عادة على حساب أولويات أخرى. لم يكتب عن شيء بالتاريخ الإنساني كما كتب عن ظاهرة الحرب. العالم والعلم ما يزالان يحاولان فهم أسباب وتداعيات وطرق تجنب الحروب دون نجاحات نهائية للحظة.
سبب هذه المقدمة هو الحرب الدموية الدائرة في غزة ذات التكلفة الإنسانية الباهظة. المدنيون، أطفالا وشيوخا ونساء، يذهبون أشلاء ممزقة نرى البكاء والعويل والألم وقد ملأ الدنيا. قلة من العالم والإعلام العالمي ترى ذلك الآن، لكن مع مرور الوقت وتعاظم التكلفة سيكون لا مفر من الوقوف أمام ما يحدث بضمير حي. العالم سيفقد صبره شيئا فشيئا لأنه لن يتحمل هذه التكلفة الإنسانية الباهظة، وسيطالب بوقف إطلاق النار. الجبهة الإنسانية ستفرض نفسها على الجميع وستخلق أجواء سياسية مغايرة لما نراه الآن.
ليس في وارد إسرائيل الحديث أو الاستماع عن أي تكلفة إنسانية. كل ما تريده هو الانتقام وترسيخ معادلات الردع من جديد. أصوات قليلة عاقلة تتحدث وتتساءل عن أي ردع تتحدث إسرائيل والمعركة ليست جيشا لجيش بالمعنى العسكري للكلمة، وبالتالي فمعادلة الردع لن تتحقق بالمعنى الذي يفهمه العسكريون. أما وقف الهجمات من غزة، فهذا معناه إعادة احتلالها بالمعنى الحرفي للكلمة، وهو أمر يبدو خيالا عسكريا وأمنيا وليس بوارد احد، والحديث عن خروج قيادات حماس من غزة لا يعني بالضرورة انتهاء حماس هناك لا عسكريا ولا سياسيا. كل هذه الأمور بديهيات لأي عاقل يتابع ويعرف ما يجري، والغضب الذي يتملك العالم الآن والحروب لن تجلب الأمن ولا السلام أو الاستقرار ولا الردع.
الحل لا بد وأن يكون سياسيا، في جيرة سلمية بين دولة فلسطينية تنظم شؤونها، بما في ذلك الأمنية وبين إسرائيل، تماما كما هو الحال بينها وبين مصر والأردن. هذا ما يقوله العقل والمنطق لأن به تقرر مؤسسات شؤونها الخارجية والأمنية الفلسطينية، وبها يشعر الفلسطينيون انهم حصلوا على حقهم في تقرير المصير والكرامة الوطنية. إنها الحكمة التي نحتاجها تلاشت الآن بسبب الغضب العالمي العارم تجاه ما حدث في إسرائيل، لكن عندما تهدأ غبار المعارك العسكرية، سيدرك أي عاقل أن الاشتباك السياسي والحل التفاوضي مهما بلغت صعوبته هو الذي سيجلب الأمن والسلام والاستقرار والردع. إمعان اليمين واستعلاؤه على حقوق الفلسطينيين كان يبدو أمرا سهلا مستداما، لكن الأردن حذر دوما أن ذلك غير مستدام وأن الجمر تحت الرماد، وأن الوضع سيستمر بالانفجار بين الحين والآخر. الحكمة والعقل هما اللذان سيجلبان السلام والأمن والاستقرار وليس الحرب والانتقام والمزيد من الدماء.