زرت البصرة وبغداد في السنة الأولى من عملي الصحفي، كان ذلك عام 1993، والحصار تم فرضه على العراق، بقرار أميركي أولا، والزيارة كانت مؤلمة وطنياً ومعنوياً وإنسانياً.
السبب في ذلك بسيط، إذ إن زيارات مستشفيات البصرة وبغداد، ورؤية الضحايا من الأبرياء بسبب الحصار، وتركهم مرضى، وتعمد التنكيل بهم، إضافة إلى ضحايا القصف على العراق في فترات مختلفة، بما في ذلك ملجأ العامرية الذي دخلته ورأيت على جدرانه آثار اللحم البشري الملتصق بعد قصف الملجأ، إضافة إلى تدمير البنية التحتية من محطات اتصالات، والكهرباء، والمصانع، والمعامل، والمنشآت النفطية، ومخازن للحبوب، ومخاون المواد التموينية، والأسواق المركزية، ومحطات ضخ المياه، والمنازل، والتعليم، وتدمير الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
هذا يعني أن عواصم العالم الأبيض بما فيها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ودول ثانية، لم يعترضوا على الانتقام من المدنيين العراقيين بذريعة اسقاط نظام صدام حسين، ولا تعرف كيف يمكن تبرير قتل شعب أعزل، لمعاقبة سلطة الحكم فيه، والكل يدرك أن الحكم لم يسقط بسبب العقوبات، فيما دفع العراقيون الابرياء الثمن فرادى، في وصفة أميركية باتت معروفة.
تذكرت الوصفة الأميركية التي تم تطبيقها ضد العراقيين الأبرياء، وأنا استمع لسياسي يقول إن الولايات المتحدة لا يمكن ان تقبل كل الذي تفعله إسرائيل في قطاع غزة، الى ما لانهاية، والرد عليه كان سهلا، لكننا نعيد التذكير علنا، ان الوصفة الأميركية هي التي يتم تطبيقها في فلسطين، على يد الإسرائيليين، أي الانتقام من الأبرياء، بذريعة معاقبة السلطة الحاكمة في غزة، على ذات طريقة معاقبة العراقيين بذريعة السلطة الحاكمة في بغداد.
ولان المقارنة هنا بين الحالتين لا تصح تماما لاعتبارات كثيرة، لكن المشترك ان حرق الأبرياء من المدنيين أمر تجيزه الدول القوية، برغم أنه يتعارض أساسا مع كل القيم التي يتم الحديث عنها ليل نهار، حول حقوق الإنسان، وغير ذلك، وهي قيم بات واضحا أنه يتم استعمالها عند الحاجة فقط لابتزاز الانظمة شرق أوسطية، وليس دفاعا عن أحد من أهل هذه المنطقة.
عشرات المستشفيات في العراق انهارت تحت وطأة الحرب والحصار، وآلاف العراقيين الأبرياء خسروا أرواحهم في ظروف ليسوا على صلة بها أصلا، ونرى في غزة ضرر الحصار منذ 16 سنة، كذات النموذج العراقي ذات يوم، وكيف يتم تدمير المستشفيات، وآخرها المعمداني والاندونيسي، وقتل الابرياء بواسطة الغارات، وقصف جوار هذه المستشفيات، والتذرع بوجود مخاون سلاح وقواعد تحت المستشفيات، وهي ذرائع لا يصدقها أحد، لاننا أمام مذابح تقع على الأبرياء، ودول كثيرة تتفرج، وتعطي الفرصة والوقت لإسرائيل لإكمال مشروعها وتطلق نداءات الاستغاثة، والمطالبة بإرسال قوافل الطعام والدواء، لإطعام الضحايا قبل موتهم.
مجزرة المستشفى المعمداني التي أدت إلى رحيل المئات، لم تحرك أحدا، ولا مجزرة المستشفى الاندونيسي، ولا مخيم جباليا، وبقية المخيمات والأحياء، وهكذا نقف أمام نهاية التاريخ، حين يتم قتل آلاف الأطفال الأبرياء الصغار والمواليد الجدد، في معركة تعلن فيها إسرائيل استهدافها لتنظيمات عسكرية، لكنها في الطريق تكشف وجهها البشع، مع بشاعات الراعي الأصلي، التي رأيناها في العراق الحبيب، ودول ثانية، حين يكون الدم العربي رخيصا، بلا قيمة.
هذه السياسات الأميركية تجعل أكثر الناس اعتدالا يفقدون عقلهم، وتجعل أكثر الناس دعوة للتقارب والتفاهم بين الأمم والحضارات، يقفون في مقامات السذاجة، لأن الوصفة الأميركية التي تم تطبيقها في العراق، هي ذات الوصفة التي تطبقها إسرائيل دوما، ونراها في غزة، أي أن تذبح الأبرياء للانتقام من سلطتهم المدنية أو العسكرية، كما في حالتي العراق وفلسطين معا.