ينقسم الرأي العام في الأردن إلى اتجاهات بشأن العلاقة الأردنية الإسرائيلية، وهذا الانقسام يمتد إلى ما يمكن وصفه بالنخبة السياسية التي لها وجهات نظر متباينة إزاء هذه العلاقة، وتطاحنت هذه الاتجاهات في هذه الفترة بشكل حاد، بعد جرائم إسرائيل في قطاع غزة واستهداف الأردن.
الاتجاه الأول، أي الشعبي، يمثله غالبية الأردنيين وهم يروْن في العلاقة مهددا أساسيا وإستراتيجيا للأردن على المدى الحالي، والمتوسط والبعيد، ويرون ضرورة الانفكاك من العلاقة أياً كانت كلفة ذلك على الأردن واستقراره واقتصاده، وعلاقاته مع عواصم كبرى لها امتدادات نافذة أيضا لدى دول المنطقة، وبرغم الكلام عن كلف قطع الغاز الفلسطيني المنهوب إسرائيليا، والماء الفلسطيني المنهوب إسرائيلياـ وكلف احتمالات تخلي واشنطن عن الأردن سياسيا واقتصاديا، وحتى تأثير إنهاء العلاقة مع إسرائيل على ما يمكن اعتباره تنسيقا يفيد الفلسطينيين بطرق مختلفة، من بينها الجسور المفتوحة، وغير ذلك إلا أن الغالبية يعتقدون أن مواصلة الاحتفاء بمزايا "الخطأ التاريخي" أي وادي عربة، أمر يتوجب تصحيحه، أيا كانت نتائج ذلك، خصوصا، أن الأردن هدف إستراتيجي من أهداف اليمين الإسرائيلي، ويراد ربما احتلاله يوما، ونزع وصايته على الأقصى، وربما التورط بالتهجير الكلي، أو الجزئي.
الاتجاه الثاني ليس شعبيا، بل بين أفراد نخب سياسية فقط، ويرى أن التصرف بواقعية، وفقا لمعادلات القوة في هذا الزمن، أمر يدل على البراغماتية، بما يحقق مصالح الأردن، من جهة، ويجنبه العدو وشرور إسرائيل، وواشنطن، ومن معهما في السر والعلن، وأن الاستفادة من مناخات العلاقات مع إسرائيل يحمي الأردن ويمنع سيناريوهات الوطن البديل، بل ويفيد الفلسطينيين من خلال التنسيق مع إسرائيل بشأن قضايا تخص الأقصى، والقدس، وغزة، والضفة الغربية، والفلسطينيين، إضافة إلى أن هذا الاتجاه يعتقد أن كل الخريطة في منطقة الشرق الأوسط تتعرض إلى إعادة رسم، ومن العبث بلورة موقف أردني معادٍ لإسرائيل في توقيت قد يؤدي إلى تعريض الأردن لأخطار إعادة الترسيم السياسي في معادلات مراكز القوة في المنطقة وملحقاتها، وخطر سيناريوهات الضم، أو القسمة، وإعادة رسم الجغرافيا السياسية-الاجتماعية، وغير ذلك من مخاطر، وما يتعلق أصلا بمدى قدرة الأردن الاقتصادية على الاشتباك أصلا في معركة لا يمكن تحمّل كلفتها الاقتصادية في الإقليم والعالم، ولها ارتدادات على الأردن عند المؤسسات الدولية، وهذا الاتجاه لا يجاهر برأيه علنا، بل يقوله في الغرف المغلقة فقط، ضاربا المثل بدول وأنظمة استهدفتها إسرائيل في المنطقة فتعرضت للتدمير.
الاتجاه الثالث ليس شعبيا أيضا، وهو بين نخبة لا تجاهر برأيها تماما، بل تتحدث من خلال الإلماحات، لاعتبارات كثيرة، وهذا الاتجاه يقول إن العالم يقف ضد المنطقة، وإسرائيل أقوى من دولها، ومعادلات النفوذ والسيطرة توجب على الأردن التعامل مع المهددات، بطريقة ذكية، مع خفض التطبيع إلى أدنى مستوياته، وعدم قطع العلاقة كليا، بل من خلال تبريد العلاقة، خصوصا، بعد المهددات الإستراتيجية الواجب تحليلها بشكل عميق، وأصحاب هذا الاتجاه يتوسطون بين الرأيين السابقين، فهو تيار يعتبر إسرائيل مجرد عدو، لكنه يريد إدارة منخفضة للعلاقة، لا تؤدي إلى نشوب عداوة مباشرة مكلفة جدا، وفي الوقت ذاته يريد خفض مستويات العلاقة، وفك التشبيك الاقتصادي، والاعتماد على حلول أردنية، وحلول بديلة.
ما يمكن قوله اليوم في كل الأحوال إن العلاقات الأردنية الإسرائيلية، تعرضت إلى ضربة غير مسبوقة منذ وادي عربة، وما قبلها، ومن المفترض هنا أن تتمكن الدولة الأردنية من بلورة معادلة جديدة في العلاقة مع إسرائيل، لأن عدم تحليل الأخطار والكلف السياسية والأمنية والاقتصادية على الأردن، بشكل إستراتيجي وعميق، سيؤشر على أننا لم نقرأ أحداث ما بعد السابع من أكتوبر بشكل صحيح، وهذا يعني أن الأصل أن يعاد استبصار الداخل الأردني بطريقة مختلفة، وتسوية كثير من الملفات الداخلية، وتمتين هذه الجبهة وحل أزماتها وعقدها، وترسيم سياسة خارجية جديدة في الوقت ذاته تجد طريقا مختلفا للأردن، وسط كل هذه الاشتباكات في المنطقة، وفي جوارنا التاريخي، وهي اشتباكات مفتوحة النهايات بالمناسبة.
تغيرت المواقيت، والشروط، والظروف، ولا يمكن لعاقل أن يعتقد أن ما قبل السابع من أكتوبر، هو ذاته ما بعد السابع من أكتوبر، على الفلسطينيين، وكل دول المنطقة.