علينا أن نتحدث بصراحة هنا، حيث أن كل مشروع الدولة الفلسطينية تم تلغيمه بشكل متدرج منذ اتفاقية أوسلو حتى اليوم، وتحول إلى مجرد إدارة مدنية تدير شؤون الفلسطينيين المدنية والاقتصادية، وتسيطر أمنيا عليهم، وفقا للتوصيف الوظيفي الذي تتورط به السلطة يوميا.
في هذا السياق يخرج رئيس الحكومة الإسرائيلية ويقول إن قطاع غزة سيبقى تحت سيطرة إسرائيل العسكرية، وإن إسرائيل سوف تنشئ إدارة مدنية وسيعاد تأهيل القطاع تحت إشراف وإدارة السلطة الوطنية الفلسطينية، وهذا التصريح سبق أن قيل مثله مرارا الفترة الماضية.
وراء هذا التصريح عدة أسباب، أولها النفي الضمني لسيناريو التهجير نحو مصر، وهو نفي لا يساوي قيمة حبره، من حيث التأكيد على أن أهل القطاع سيبقون وسيكونون بحاجة لمن يدير شؤونهم، وثانيها التنصل من مسؤولية الأضرار الإنسانية والاقتصادية داخل القطاع، ونقل كلفتها إلى الجهة الوريثة لتتدبر الكلف المالية، وتتولى المهام الأمنية، وثالثها نفي سيناريو إعادة تصنيع السلطة في رام الله، بشكل ورئاسة جديدة، ضمن مهمات جديدة، من خلال الإيحاء أنها ستعود للتمدد في غزة ولن تتقلص مساحاتها، ورابعها إثارة الأحقاد بين غزة والضفة الغربية من ناحية سياسية من خلال الإيحاء أيضا أن هناك توافقا إسرائيليا مع السلطة على العمليات البرية في القطاع، وأن هناك توافقا سياسيا على مرحلة ما بعد الحرب، وخامسها الإيحاء المغشوش أيضا أن لا نية لفصل القطاع عن الضفة الغربية على المدى الإستراتيجي.
هذا كذب إسرائيلي، يقوم على استحالات اللحظة الحالية، لأن إسرائيل ذاتها ليس لديها أي تصور محدد قابل للنجاح في قطاع غزة بعد الحرب، وهذا يعني أن القطاع سيبقى بمثابة بوابات جهنم المفتوحة في وجه إسرائيل، وهذا يفسر تصريح رئيس حكومة إسرائيل حول البقاء العسكري، الذي يعني استحالة تثبيت الاستقرار بالمفهوم الأمني الإسرائيلي داخل القطاع.
كل الحلول التي تطرحها إسرائيل للقطاع لفترة ما بعد الحرب غير قابلة للتطبيق، فلا السلطة قادرة سياسيا واقتصاديا وشعبيا على الدخول إلى قطاع مدمر لتتولى مهام إعادة إعماره على فرض توفر تمويل مالي أصلا، ولا هي قادرة أمنيا على مواجهة غضب الغزيين جراء المذابح التي تعرضوا لها، ولا أن تكون بديلا عن الاحتلال في دور أمني، سيؤدي إلى تصفية وقتل أي شخص سياسي أو أمني من عناصر السلطة يدخل إلى القطاع على ظهر الدبابات الإسرائيلية، إضافة إلى استحالات حلول التهجير إلى مصر- ولو جزئيا- واستحالات إقناع مصر بحكم القطاع، واستحالات تأسيس قوات عربية ودولية تنتشر في القطاع، واستحالات تأسيس إدارة مدنية عميلة للاحتلال، ستتم تصفيتها في مجتمع "متدين وعسكري وعشائري" في الوقت ذاته.
الأزمة الأكبر ستبدأ بعد الحرب في كل الأحوال، خصوصا، أن التخطيط الإستراتيجي الإسرائيلي قام في هذه المرحلة على فرضية الانتقام وحفظ ماء الوجه بعد ضربة السابع من أكتوبر، وتجنب السؤال الأعمق حول القطاع بعد الحرب، وإدارته سياسيا، وأمنيا واقتصاديا، وعلى مستويات شعبية، خصوصا، مع حجم التدمير الشامل الذي نراه.
أخطر سيناريو قد تتورط فيه إسرائيل، لم تذكره علنا حتى الآن، أي إنهاء العمليات العسكرية بعد أسابيع أو شهور، والخروج من القطاع، وإغلاقه وخنقه كليا أو جزئيا، وترك الناس لمصيرهم، مع المؤسسات المتبقية داخل القطاع، ووجها لوجه مع جماعات المقاومة بهياكلها السياسية الرمزية فقط، ليكون الجميع داخل غرفة مغلقة غير صالحة للحياة، وسط مناخات المعاناة والتعب والمرض والجوع والتلاوم الداخلي، لاعتبارات مختلفة، في سياق نظرية مواصلة التعذيب، وتدبر الأمور في القطاع، مع التحكم بكل المساعدات والمعابر، ومنع إعادة إعمار القطاع، وغير ذلك، في منطقة مهدمة ستتحول إلى سجن يتعرض فيه الأبرياء إلى الموت.
هذا السيناريو يجب ألا يغيب عن البال، أي ترك القطاع مهدما، دون أي حل، وترك إدارته لجماعات المقاومة، بشكل سياسي فقط، دون أدوات اقتصادية وسياسية وعسكرية للحكم، تحت عنوان يقول إن على إسرائيل مواصلة تعذيبهم، وعدم السماح بأي حل لهم بعد الحرب أيضا.
كل هذا السيناريو يفترض أصلا، قدرة إسرائيل على فعل كل شيء، لكن مهلا.. فما زلنا لا ندرك مساحات الانفجار الأكبر المحتمل لكل هذه الأزمة، وحدودها وإلى أين ستأخذنا غزة؟.