بعد أن أشاد بموقف الأردن خلال الحرب على غزة، ومساندة الأشقاء الفلسطينيين، لم يتردد محام صديق بتوجيه انتقادات لاذعة، مطالبا باستغلال طول الحدود مع دولة الاحتلال كرسالة قوية لإجبار الأخيرة على وقف العدوان، بل إن صديقا آخر ذهب للتأكيد على ضرورة تنفيذ ما أسماها "حركشة" عسكرية محدودة!
طروح عاطفية تشفع لها مشاهد الدم والدمار التي نشاهدها بكل ألم بشكل يومي، جراء إجرام صهيوني غير مسبوق وصمت عالمي سافر. في المقابل، أتابع على مواقع التواصل الاجتماعي دفاعات مستميتة لأشقاء عرب عن دولهم التي تتعرض مواقفها لانتقادات من الشارع العربي، رافضين توجيه أي ملاحظة تمس سيادتهم وسياستهم وقناعاتهم، سواء كنت متفقا معها أم متحفظا عليها.
في سبعين يوما من حرب الإبادة على غزة، تعرض الأردن للجلد على مدار الساعة من بعض أبنائه، رغم ما قام به من مواجهات سياسية شرسة في المحافل الدولية لوقف الحرب ومساندة الأشقاء، وتقديم يد العون لهم، وهي معركة لا يحتاج أي أردني إلى تذكيره بتفاصيلها الكثيرة.
في سلوك نقاشي مستهجن، وعندما يتم التطرق لآليات نصرة الأشقاء في غزة، يسارع بعضهم إلى رمي تهمة مفادها "أنت تتحدث باسم الدولة، أو الحكومة"، وكأن الدولة هذه ليست دولتنا، بحيث لا يجوز الانتماء إليها، والحرص على استقرارها وأمنها، والحفاظ على مصالحها. لماذا ينبغي أن نشعر بأن من يفعل ذلك عميل لدولة الاحتلال!
تحتم عليك الخيارات المهنية والأخلاقية أن تطرح رأيك، حتى لو كان لا يعجب بعضهم، لذلك، لا يمكن قبول تحميل الأردن أكبر من حجمه وقدراته، وهو الذي تبنى مواقف قوية نأمل أن لا يدفع ثمنها لاحقا، وأن لا ينعكس ذلك على قدرته في تلبية احتياجاته المالية والسياسية والاقتصادية، بما يؤثر على المواطن ومعيشته، فيما دول العالم التي تفوقنا قدرات مضاعفة لم تجرؤ على اتخاذ مثل تلك المواقف طيلة أيام العدوان.
هذا لا يعني أن توقف سياستنا الخارجية جهودها لنصرة الأشقاء، ولا يعني أيضا تراجع المساندة الشعبية لهم، بل أنا مؤمن بأهميته وضرورة استمراره، لكن بالتأكيد هناك أشكال من المساندة القوية، والتي لا تؤثر على الأردن كدولة، وليس الإضراب العام، مثلا، والذي لن يتأثر به سوانا، وكأنما نضع أنفسنا في مقابل الدولة التي تحمينا. هذا نوع من المساندة المضللة التي لا تضع الأردن كأولوية، بل تهدف إلى إضعافه عن سابق إصرار ودراية.
حين ينتقد بعضهم، مثلا، توقيع اتفاقية مساعدات مع أميركا، فهم يرون بنصف عين فقط. نعم أميركا تخوض حربا على الأشقاء في غزة، وتزود الاحتلال بالسلاح لقتل مزيد من الفلسطينيين. لكن هناك شأن أردني يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار إذا ما أراد الأردنيون تجاوز مزيد من التعقيدات الاقتصادية الثقيلة، ومزيد من عجز الموازنة. واشنطن لا تشتري مواقفنا بمثل هذه الاتفاقيات، لأنها تندرج تحت بند المصالح والعلاقات المشتركة. هم بحاجة لنا أيضا، والحاجة هنا ليست للدفاع عن حدود الاحتلال كما يروج البعض بسذاجة.
أشعر بأن هناك استغلاقا مفهوميا أمام كل من يريد الحديث عن مصالح الأردن عندما يتعلق الأمر بمسألة إقليمية، إذ دائما هناك تغليب لمصالح الآخرين على المصلحة الوطنية الواضحة. تفاصيل الحديث هنا واضحة، لكنها قد تغضب بعضهم، وقد يذهب آخرون للاتهام بعدم التعاطف مع الأشقاء في غزة ما دمت أتحدث عن مصالح الأردن.
ربما هذا هو الاستغلاق الذي أتحدث عنه في عدم وضع الأردن أولوية. مصالح الأوطان لا يتم نقاشها في إدراجات على مواقع التواصل الاجتماعي، بل برؤية مهنية تمتلك الأخلاقيات المطلوبة، وليس الأهواء!