لقد كان فتح مكة" الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمـين، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدي للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين. وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء...ودخل الناس به في دين الله أفواجا، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجا " .
وكان لهذا الفتح الأعظم رد فعل معاكس لدى القبائل العربية الكبيرة القريبة من مكة، وفي مقدمتها قبيلتا ( هوزان ) و( ثقيف ). فقد اجتمع رؤساء هذه القبائل، وسلموا قياد أمرهم، إلى مالك بن عوف سيد ( هوزان ). وأجمعوا أمرهم على المسير لقتال المسلمين، قبل أن تتوطد دعائم نصرهم، وتنتشر طلائع فتحهم .
وهذا الحدث وما رافقه من مجريات ووقائع، هو الذي أشار إليه سبحانه وتعالى، بقوله: { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين } (التوبة:25-26) .
لقد كان موقف رسول الله وثباته في هذه المعركة مع قلة من الصحابة دليلا ناصعا، وبرهانا ساطعا على عمق إيمانه بالله، وثقته بنصره وتأييده، وتحققه بأن نتيجة المعركة سوف تكون إلى جانب الحق. وإنك لتبصر صورة نادرة، وجرأة غير معهودة في مثل هذه المواقف؛ فقد تفرقت عنه صلى الله عليه وسلم الجموع، وولوا الأدبار، لا يلوي واحد منهم على أحد، ولم يبق إلا رسول الله وسط ساحات الوغى، حيث تحف به كمائن العدو من كل جانب، فثبت ثباتا عجيبا، امتد أثره إلى نفوس أولئك الفارين، فعادت إليهم من ذلك المشهد رباطة الجأش، وقوة العزيمة .
إنّ الحاضنة الشعبية لأي تنظيم مقاوم، سواء كان "حماس" أو غيرها، قادرة على أن تفرز تنظيمًا آخر مهما كان اسمه أو بنيته العقائدية وسيكون هدفه الوحيد هو زوال الإحتلال وليس الإنتصار على الجيش الإسرائيلي كما تفعل الجيوش النظامية إذا دخلت حربًا ضد إسرائيل.
يحدث في عالمنا المعاصر أن إنتصرت قوة إحتلال على قوة مقاومة رغم فارق العدة والعتاد، فالفارق بين مقاومة فيتنام وأقوى جيش في العالم (أمريكا) كانت هائلة ومع ذلك إنتصرت فيتنام، والفارق بين جيش فرنسا وجيش التحرير الجزائري كانت ضخمة ومع ذلك انتصرت المقاومة الجزائرية، وسيبقى الفارق هائلًا بين قدرات جيش الإحتلال الإسرائيلي وفصائل المقاومة الفلسطينية، فهي لا تمتلك الطائرات والدبابات والسفن ومعها أحدث المعدات والأسلحة الأمريكية، ولكنها تمتلك الإرادة والصمود ولا تعتبر هدفها هزيمة الجيش الإسرائيلي إنما أن يتكبّد خسائر كبيرة وأن تستنزف قوته بصورة تجبره في النهاية على إنهاء الاحتلال.
ستنتهي حرب غزّة قريبًا وستبدو إسرائيل وكأنها منتصرة عسكريًا بعد أن تكون أضعفت جانبًا كبيرًا من قوة "حماس" العسكرية، وقتلت مع سبق الإصرار والترصد 25 ألف مدني، ولكنها خسرت أولًا المعركة الأخلاقية، كما أنها لم تنجح ثانيًا في القضاء على "حماس" ولا على مشروع المقاومة الذي ينتظر دورة جديدة للعودة مرة أخرى.
الدكتور هيثم عبدالكريم احمد الربابعة
أستاذ اللسانيات الحديثة المقارنة والتخطيط اللغوي